11 سبتمبر 2025

تسجيل

القافزون في الفراغ

29 مايو 2024

في إحدى مزارع الأغنام في أستراليا يقف صاحب المزرعة وسط قطيع لا متناهي من الخراف السمينة على قطعة أرض مترامية الأطراف يتجول بدراجته النارية على مهل ويجري خلفه كلبه المدلل، وفجأة تلوح في الأفق مركبة متجهة نحوه، وقف يرقب تلك المركبة حتى توقفت ونزل منها رجل مهندم وتقدم مبتسمًا وهو يقول: سيدي هل تعلم عدد الخراف السود والبيض في مزرعتك؟ فأجاب صاحب المزرعة: لا وأعتقد أنه من الصعب عليَّ أن أحصي عددها، فهي كما ترى كثيرة ومنتشرة في كل مكان، فقال الرجل ما رأيك أن أحصيها لك في خمس دقائق، بل سأعطيك عدد الخراف السود والبيض كل على حدة مقابل أن تعطيني خروفًا واحدًا منها فقط، فتعجب صاحب المزرعة وأخذه الحماس لذلك فقال لا بأس أرني كيف ستحصيها في خمس دقائق!. رجع الرجل إلى سيارته ثم اتصل بصديقه في وكالة الفضاء ناسا وطلب منه إحصائية بواسطة خرائط الأقمار الصناعية للنقاط السود والبيض المنتشرة في إحداثيات المزرعة، وخلال دقائق كانت الأرقام بين يدي صاحب المزرعة الذي انتابه الذهول مما حدث، وبينما هو كذلك أخذ الرجل أحد الخراف وتوجه لسيارته مغادرًا المكان وإذا بصاحب المزرعة يطلب منه التوقف سائلًا إياه: هل تعمل كمستشار؟ قال الرجل نعم وكيف عرفت؟، يجيب الراعي: «بسيط جدًّا» أولًا: لأنك أعطيتني معلومة بطريقة عبقرية مقابل أن تأخذ أحد الخراف، ولكن تلك المعلومة ليست ضرورية لاستمرار العمل، ثانيًا لأنك لا تفهم أي شيء عن طبيعة عملي... والآن هل يمكنني استعادة كلبي؟». يقول أحد الأدباء الروس «الذي يقفز في الفراغ غير مُدين بأي مبرّر لأولئك الناظرين»، أي أن القافز في الفراغ ليس له هدف يصبو إليه حتى تتم محاسبته عليه وبالتالي معرفة نجاحه من فشله، وهنا لا يكون ملزمًا بتقديم المبررات لمن يشاهدون ما يحدث فهم يعلمون أنها قفزة في الفراغ وبلا هدف. والحديث هنا لا يقتصر على المستشارين الذين يُستعان بهم دون تحديد نطاق عمل واضح، ودون تشخيص التحدي الذي تواجهه المؤسسة قبل تكليفهم، حتى يعملوا على دراسته وتقديم التوصيات والحلول الناجعة له، بل القافزون في الفراغ متعددون، فهناك من يتبنى مشاريع ومبادرات، ويبدد الأموال والموارد على أفكار لم تأخذ نصيبها من الدراسة والتخطيط، ثم تتلاشى بمجرد إعفائه من منصبه أو استقالته، ذلك لأنها لم تُبنَ على أساس متين ولم تأخذ المصلحة العامة بعين الاعتبار حتى تتحقق لها الاستدامة ويُكتب لها البقاء، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا يخلو منها أي قطاع.