12 سبتمبر 2025

تسجيل

الترجمة والهُوية الثقافية العربية.. 1

29 مايو 2014

من المسلم به أن الحق في المعرفة من حقوق الإنسان الأساسية.. بل هو الحق الأصيل الأول الذي تكفله كل الدول لرعاياها ومن قبلهم كفلته الأديان السماوية لمن يتبعونهم. ولا شك أن الترجمة من أهم العوامل التي تعمل على تدعيم المعرفة بالعالم الذي نعيش فيه.. وهى – أي الترجمة – تسهم في تنوير العقول والارتقاء بالإنسان المعاصر بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة يعرف من يعيش في أي مكان على ظهر كوكب الأرض ما يحدث فى الطرف الآخر في نفس لحظة وقوع الحدث.. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة.. كيف؟ وما هي عملية الترجمة؟ وكيف تتم؟ هذا ما سنتطرق إليه في هذا المقال. الترجمة (ويطلق عليها بعض العلماء عملية النقل) هي ببساطة تحويل نص أصلى مكتوب يٌسمى ( النص المصدر ) إلى نص مكتوب ويُسمى (النص الهدف) في اللغة الهدف. لا يستطيع إنسان مهما كانت قدراته أن يعرف أكثر من لغته الأم ولغة أجنبية أخرى أو اثنتين أو ثلاثة.. يعنى لا يمكن أن يكون على معرفة بكل لغات العالم.. ومن هنا كان أهمية نقل المعرفة ليس فقط في الأحداث الجارية بل أيضا في شتى أنواع المعرفة.. ويمكن الترجمة من لغة إلى أخرى مباشرة كما يمكن الترجمة عن طريق لغة وسيطة وهو أمر في غاية الصعوبة على نحو ما سنتطرق إليه في هذا المقال.. ولكن في جميع الأحوال لابد أن يتوفر الحس الأدبي في من يقوم بالترجمة لنص أدبي على سبيل المثال.. وبالمقابل يجب توافر الدراية الكاملة بالناحية العلمية أو الطبية لمن يتصدى للترجمة في هذه النواحي.. هذا فضلا عن إجادته لكلا اللغتين المترجم منها وإليها بطبيعة الحال . حقيقة أخرى يجب الالتفات إليها في هذا الصدد وهى أن الأقوى دائما هو الذي يكون أكثر تأثيرا في من هم أضعف منه.. وبعد الفتوحات العظيمة في العصر العباسي واتساع رقعة الخلافة نحو الشرق والغرب كان الخليفة هارون الرشيد ومن بعده ابنه الخليفة المأمون من أوائل من فطن لأهمية هذه الحقيقة ومن هنا جاء اهتمامها بالترجمة في نواحي المعرفة في العالم العربي واعتبرا أن الترجمة ليست ترفا لنقل الآداب والقصص والأشعار فقط ولكنها ضرورة حيوية لتقدم الأمة العربية وازدهارها في كافة العلوم وشتى مناحي الثقافة فكان أن قام الخليفة هارون الرشيد بإنشاء دار الحكمة في بغداد وقام بتجميع المترجمين من شتى أنحاء وأركان الخلافة وكفل لهم حياة كريمة بل وأجزل لهم العطاء في مقابل قيامهم بالترجمة من الفارسية والهندية واليونانية حيث كانت هذه البلاد هي الأكثر تقدما في تلك الآونة ولابد من تأثيرها على من حولها وفى طليعتها بالطبع شعب الخلافة العباسية.. وبهذا برهن الخليفة هارون الرشيد ومن بعده الخليفة المأمون على رجاحة عقلهما وأنهما كانا من السابقين للعصر الذي عاشا فيه.. وكان من فرط حماس هارون الرشيد أنه كان يمنح من يقوم بترجمة كتاب وزن هذا الكتاب ذهبا.. ومن أشهر المترجمين في العصر العباسي حنين بن اسحق وإبنه اسحق وثابت بن قرة . ولا يفوتنا في هذا الصدد أن نشير إلى أنه في عصر الدولة الأموية في دمشق– والتي سبقت الخلافة العباسية في بغداد– لاقت الترجمة اهتمام أمراء الدولة الأموية إدراكا لأهميتها وكان في طليعة هؤلاء الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان الذي ترجمت في عهده العديد من الدواوين الشعرية والكتب العلمية مثل علوم الطب والفلك والرياضيات والنقد والموسيقى وغيرها الكثير . وتكرر نفس الأمر في مصر في بداية عصر النهضة الحديث فيما يطلق عليه البعض عصر الأسرة العلوية نسبة إلى محمد على باشا الكبير 1805– 1848 حيث عمل على نقل المعرفة من الدول الأكثر تقدما وخاصة إنجلترا وفرنسا فكان أن كلف رفاعة الطهطاوى بإعداد جيل من المترجمين لهذا الغرض.. وكانت تلك هي بداية ما صار يعرف بمدرسة الألسن التي افتتحت في القاهرة عام 1835 وتولى نظارتها رفاعة الطهطاوى.. وكانت هذه هي الموجة الأولى في العصر الحديث والتي تلتها موجات أخرى على يد الدكتور طه حسين بعد حصوله على درجة الدكتوراه وعودته من فرنسا وتوليه وزارة التعليم (أو ما كان يطلق عليها وزارة المعارف العمومية) حيث تبنى مشروع الألف كتاب.. وأخيرا كان المركز القومي للترجمة عام 1995 والذي ترأسه الدكتور جابر عصفور حيث كان الهدف الأساسي للمركز– غير الترجمة بطبيعة الحال– هو كسر الطوق المفروض على الترجمة من اللغات الأوروبية وهيمنة اللغتين الفرنسية والإنجليزية بالذات فقام المركز بترجمة كتب من أكثر من خمس وثلاثون لغة أصلية من بينها لغات لم تترجم عنها للعربية كما تقول الأستاذة تهاني صلاح في جريدة الأهرام. كيف يمكننا أن نخطو نحو مشروعات ثقافية تقدمية تعتمد على الترجمة في نقل الحضارة والثقافة والفكر واللغة شريطة أن تكون هذه المشروعات وطنية الملامح والهوى؟ وما هي المشكلات التي تواجه عملية الترجمة في عالمنا العربي؟ وما هي أهم اشتراطات الترجمة؟ وما هي معايير المواد أو الكتب التي يتم ترجمتها؟ وهل يجب أن تكون الترجمة تحت إشراف الدول أم يترك الأمر للأفراد ودور النشر يترجمون ما يحلو لهم؟ وما هي الإيجابيات والسلبيات في أي من هذين الاختيارين؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما سنحاول الإجابة عليه وما سنتناوله في مقالنا القادم . فإلى اللقاء بحول الله.