12 سبتمبر 2025
تسجيلأحيانا أتساءل عندما أقرأ أو أرى قصصا يمثل أبطالها التضحية، فيجسدون صورا نبيلة في العطاء، هل هؤلاء البشر الذين نراهم يسخرون أنفسهم لغيرهم، ويعطون الكثير في حياتهم من أجل غيرهم، قد اختاروا هذا الشيء بإرادتهم؟ أم أن هؤلاء الناس قد قدر لهم أن يكونوا - هكذا - مسيرين في طريق العطاء؟ والشيء المؤكد أن هذه التساؤلات لا بد أن أجد لها إجابة عندما أصادف في حياتي شخصية مثل شخصية (مؤمنة). إنها الفتاة التي وضعها القدر في طريقي، كي أعرفها، وأتعلم منها، وكي أجد لديها الإجابة عن تساؤلاتي. فلا شك أن هناك من البشر الذين قد نصادفهم في الحياة، لهم القدرة على التأثير في مشاعرنا، وهكذا كانت (مؤمنة)، الفتاة الآسيوية الشابة التي عرفتها في إحدى الدول الآسيوية، فقد كانت تقيم هي ووالدها المريض الذي يتلقى العلاج في هذه الدولة معنا بنفس الفندق، ومع انها لم تتجاوز الثامنة والعشرين من العمر، إلا ان وجهها المتعب وعينيها اللتين سكنت الهالات السوداء حولهما، كانت توحي بضعف سنها الحقيقية، وكانت دليلا كافيا على المعاناة، والمسؤولية الكبيرة التي تتحملها. ووجدت في (مؤمنة) شخصية جذابة قادرة على نشر الابتسامة، ومشاعر العطاء الإيجابية لكل من حولها، واستطاعت بسرعة أن تخلق بيني وبينها جسرا من الألفة والصداقة. وحكت لي عن نفسها وبأنها تخرجت من الجامعة في بلادها بتفوق، مما جعلها تحصل على وظيفة مرموقة بنفس الجامعة التي تخرجت منها، ثم تمت ترقيتها بسرعة كمديرة لأحد الأقسام الكبرى بالجامعة، لكنها اصطدمت بمرض والدها، الذي أصبح في حاجة معه لتلقي العلاج المتخصص في هذه المدينة بين فترة وأخرى. ولأن والدها أصبح في حاجة ماسة لرعايتها، كانت تقوم بتقديم طلباتها للإجازات المتكررة، وقد مرت عليها ست سنوات كاملة وهي تقف وراء والدها المريض. وقد تأثرت بكلمات (مؤمنة) عندما قالت: (في السنوات الست الماضية كنت أتخطى الكثير مما كان قد يقدم لي المستقبل الأفضل في رأي الكثيرين، فقد رفضت أكثر من شخص تقدم للزواج مني، كان أحدهم جزءا من أحلامي، لأنني عرفت بأنني لن أكون سعيدة أبدا ووالدي في حاجة لرعايتي، ولمرافقته في رحلات علاجه، وعندما اتصل بي رئيسي في العمل يناشدني العودة، كي لا أخسر فرصة للحصول على ترقية أخرى براتب أكبر، كان خيار الرفض هو الخيار الحاسم الذي لم أعطه فرصة التفكير. أشعر بأن مهمتي الحقيقية وسعادتي الآن هي ملازمة والدي، وعندما أشعر بحاجتي للبكاء أذهب إلى المقهى القريب لأبكي وحدي، ولم أبك أبدا لأنني آسفة على ما فاتني، ولكن لمشاعر الألم وتأثري بوالدي الذي أحبه كثيرا، أما ما فاتني فأنا على يقين بأن القدر لا بد أن يقدم لي ما هو أفضل منه). فلا شك أن من يقدمون العطاء بكل معانيه لغيرهم يمتلكون شخصية هي من تقرر هذا العطاء، وإن الحب الذي يغمر داخل بعض البشر هو المحرك الذي يتحكم في عطائهم. فالقلب الذي يستطيع أن يضخ الحب الحقيقي، هو من يستطيع أن يقدم تنازلاته عن كثير من فرص الحياة التي قد لا تعود مرة أخرى بكل رحابة صدر، ولا يعدها شيئا، والتي قد يقتنصها البعض دون تفكير. والذي قد يجهله البعض من الناس أن العطاء له لذة خاصة لدى من يقدمة، وإن القدرة على العطاء من المشاعر السامية التي ترتبط بصفات أخرى أسمى، وإن أولئك الذين يعطون من حياتهم أو يدمنون العطاء يتجردون من مشاعر الندم. ومن الأعماق أشكر (مؤمنة)، ليس لعطائها فحسب، ولكن لأن عطاءها أيضا استطاع أن يتغلغل في داخلي إعجابا، ترجمه قلمي على الورق، وإنساب كلمات في العطاء أهديها لقراء..( من الحياة). [email protected]