10 سبتمبر 2025
تسجيل"لكل مجتهد نصيب"، تثير هذه الجملة امتعاض البعض، على اعتبار أنها تنتمي للأقوال الرومانسية غير الواقعية، انطلاقا من أن التجربة خير برهان، وقد لا يحالف كل مجتهد الحظ لينال نصيبه، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى أن يتمكن منه الإحباط واليأس فيمتعض من سماع هذا القول المأثور؛ ناهيك عن أن الشروط الواجب تحققها لينال المجتهد نصيبه قد تكون كثيرة ومعقدة وصعبة المنال وتواجه طوفاناً جارفاً من مسببات الإحباط واليأس. ربما تتحقق هذه الفرضية في أحيان وفق شروط محددة كما أسلفنا بجانب عوامل الحظ والصدفة، ولكن هل يمكن الركون إلى تحقق الشروط ومصادفة الأقدار لينال كل مجتهد نصيبه، خصوصا إذا ما تناولنا هذا الأمر في سياق المجال الوظيفي، وما يترتب عليه وفق منظور تنموي وبعد إستراتيجي، وهل نيل الحقوق الوظيفية أو الشعور بالرضى الوظيفي نتيجة حتمية للاجتهاد؟ يواجه الواقع الوظيفي في كثير من القطاعات، وفي أحيان كثيرة، إشكالية تتمثل في أن للاجتهاد والمثابرة وإنجاز ما يوكل إلى الموظف من مهام بكل "أمانة وصدق"، نتائج قد تكون عكسية ومحبطة منها أن من يثبت كفاءته، قد توكل إليه مهام أكبر وأكثر، وهو في كل الأوقات يُتوقع منه الأكثر والمزيد، وبما أن لكل جواد كبوة! فإن موظفنا المجتهد قد يتعرض للوقوع في الخطأ أو السهو، أو ينعم بنعمة النسيان، وبالنظر إلى أن مبدأ الثواب والعقاب يعد من مقومات العمل المؤسسي والحوكمة، فقد يواجه هذا الموظف تأنيباً وتأديباً، وقد يُنذر ليكون أكثر حيطةً وحذراً في المسقبل، ذلك المستقبل الوظيفي الذي يبذل جهدا جهيدا لتحقيقه؛ هذا إن لم يتمكن منه الإحباط ويأخذ منه كل مأخذ، ليسعى جاهدا لتحسين واقعه الوظيفي بالهرب إلى حتفه نحو مكان آخر ليواجه نفس المصير، أو قد يبتسم له الحظ ببساطة فيجد نفسه في "الأرض الموعودة". في مقابل ذلك نجد المتقاعسين من الموظفين ممن لا يعيرون العمل أي اهتمام غير الآبهين بتطوير مهاراتهم وإثبات قدراتهم على إنجاز الأعمال بكفاءة ينعمون في الغالب بالراحة والاستقرار والأمان الوظيفي غير مهتمين بما يدور حولهم. وبما أن مهمتهم تتمركز حول الحضور والانصراف في أوقات محددة، فإنهم غير معرضين لارتكاب الأخطاء، وبما أنه "لا عقوبة إلا بنص"، فإنهم في حِلٍّ من القرارات التأديبية والإنذارات المكتوبه منها والشفهية، ولكن السؤال المهم هنا هو: ماهي الرسالة الضمنية التي نريد إيصالها للموظف أو يفترض بها أن تصل؟، هل هي " التقاعس هو الحل" أم " لكل مجتهد نصيب ولو بعد حين". تؤثر تلك السلبية التي تطال قطاعات كثيرة، كما أسلفنا، في بيئة العمل وتجعل منها بيئة طاردة، كما أنها تؤثر على الإنتاجية المرتبطة بالتنمية والتطور، و إذا ما سعى الموظف لتحسين ظروفه الشخصية بالانتقال إلى بيئة عمل تقدر أصحاب الكفاءات "أو هكذا يتوقع" وترك البيئة المحبطة خلف ظهره، فإنه لا يمكننا بأي حال من الأحوال اعتبار هذه الخطوة الجريئة، والتي قد يترتب عليها حل على المستوى الشخصي، بمثابة حل للمشكلة بصورتها الأشمل بتلك البساطة، حيث إن إهمالها في بعدها الإستراتيجي لن يحقق تقدما فيما يتعلق بتحسين بيئة العمل، والذي يؤدي بدوره إلى تحسين الإنتاجية وتحقيق التنمية على المستوى الوطني. ومما يثير الامتعاض حقاً هو أن المتقاعسين والقواعد من الموظفين قد يشاركون الموظف المجتهد في الامتيازات والدورات والعلاوات والمكافآت والارتحال عن أرض الوطن في المهمات والزيارات، ولأن المتقاعس يسهل الاستغناء عنه، فإن طلباته بالابتعاد عن بيئة العمل تحت أي مسوغ مقبولة في غالبها؛ في حين أن صاحبنا المكافح الذي لا يمكن الاستغناء عنه يواجه مصيره في بحر متلاطم من الأمواج، فهو شعلة النشاط، وهو المهم الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وهو الشمعة التي تحترق لتنير دروب الآخرين، وفي نهاية المطاف قد يحصل على رسالة طبع في أوسطها "نشكركم على جهودكم التي بذلتموها" ليفاجأ أن زميله حصل على واحدة مثلها هو الآخر. أستذكر هنا قول الشاعر (وإذا تكون كريهة أُدعى لها *** وإذا يحاس الحيس يُدعى جندبُ)، ولذلك فإن الحالة "الجندبية" -إذا صح التعبير- آخذة في الانتشار بكل أسف، ودون وضع تصور واضح لتصحيح المسار، فإن الرسالة التي سننقلها إلى الأجيال سيكون مفادها أن العمل والجد والمثابرة ذات مردود سلبي، في حين أن التقاعس إذا ما ارتبط ببعض المهارات الاجتماعية والمجاملات والمعارف وحسن إدارة العلاقات، فإن ذلك سيكون مفتاحا للنجاح المرتبط بالراحة والسكينة، ومن منا لا ينشد الراحة والنجاح.. و"السكينة"!. عندما نتطرق للنجاحات التي حققتها كبرى الشركات وعمالقة التكنولوجيا ونحاول أن نحلل أسباب نجاحها، ونبحث عن العامل المهم الذي أدى إلى نجاحها لاستلهام التجربة منها، يتبادر إلى الأذهان سؤال: ما الذي يميز تلك الشركات وما هو العامل الذي أدى إلى نموها، هل هي الموارد ورؤوس الأموال؟ فذلك موجود لدى غيرهم، أم هي العقليات الفذة التي تديرها؟ فتلك أيضا تتغير مع مرور الزمن، إذاً ما الذي يميزها؟ أو ما الذي أدى إلى نجاحها؟ في الواقع، فإن الاستثمار في رأس المال البشري هو العامل المفصلي في تحقيق النجاح، وهو ما فطنت له كبرى الشركات، وشركات التكنولوجيا على وجه الخصوص، فتحقيق الرضا الوظيفي أمر حاسم ومهم في تحقيق النمو في قطاع الأعمال، عبر حسن إدارة المورد البشري، وهو من المفاهيم الحديثة في علم الإدارة، على اعتبار أن العنصر البشري يعد مورداً لابد من استثماره وتنميته والحفاظ عليه، ولتحقيق ذلك، لابد من تحقيق الرضا الوظيفي والأمن الوظيفي، وهو الأمر الذي لن يتم عبر تعليق المنشورات على حوائط مقر العمل من قبيل "عزيزي الموظف.. عزيزتي الموظفة"، فلا بد من معالجة كافة المعوقات التي تقف عقبه أمام تحسين ظروف العمل وفق منظور علمي، ووفق ما أثبتته أحدث الدراسات والأبحاث في هذا المجال، وليس عبر تغيير مسمى إدارة شؤون الموظفين إلى إدارة الموارد البشرية مع الإبقاء على العقلية ذاتها التي تتعامل مع الموظف كرقم وظيفي وحسب. وأمام تلك الإشكالية وأمام الإحباط الذي يعيشه الموظف، هل يمكننا توجيه اللوم لمن اختار لنفسه النأي عن التميز وإبراز مهاراته والاكتفاء بالحد الأدنى من إنجاز الأعمال، أو انضم إلى فريق القواعد من الموظفين الذين لا يرجون تطورا ولا تحسنا، أو هل يقع اللوم على من نفذ بجلده بحثا عن بيئة عمل أنسب تحقيقا لمصلحته الشخصية متجاهلاً المصلحة الكبرى وأهداف التنمية بعيدة المدى؟ أم أنه غير مُلام بسبب المعطيات وما يفرضه عليه الواقع، وثم كيف يمكن للموظف في أسفل السلم أن يسهم في تقويم الوضع وتصويبه، وأن لا يكون ركنا من أركان "الجريمة"، وهل يمكننا التعويل على الدافع الشخصي للموظف للاستمرار في كفاحه واجتهاده، أم أن الدافع الشخصي عامل لا يمكن التعويل عليه بسبب الفروقات الشخصية بين البشر، وهل تتوافق إستراتيجيات الحوكمة ومفاهيم العمل المؤسسي مع الاعتماد على أمزجة ودوافع الموظف الشخصية لتحقيق تنمية شاملة وإصلاح المنظومة الوظيفية في أي مكان. وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أن النصيب قد لا يكون متعلقا بالإشادة أو التكريم أو الزيادة النقدية في "المرتب" أو تقلد المناصب القيادية، بل يكفي أن تهيأ البيئة الوظيفية وتصبح بيئة حاضنة مريحة ومحفزة على أداء العمل، وهذا هو الحد الأدنى من النصيب المنتظر.