19 سبتمبر 2025

تسجيل

في مقهى .....ذات صيف

28 أكتوبر 2019

  تنهد بعد أن جلس على الكرسي وقال: يا عمي الله راضٍ على البلاد وأهلها، الجو دائما جميل أو ممطر والخضرة في كل مكان، والإنسان يشعر بالحرية والنظام، والقانون هو السائد، ثم أكد قائلا: أتصدق أن صاحب التاكسي الذي نزلت منه للتو قال لي إنه رفع دعوى ضد وزير البلدية لعدم قيام الدولة بدورها في تنظيف منطقته التي يسكنها، مطالبا إياه بإرجاع قيمة ضرائبه التي يدفعها لذلك. سألته أأنت مواطن هنا، قال: نعم منذ عشر سنوات، وسألته كذلك: لم تركت وطنك، أجاب هو الذ تركني وأرغمني على الهجرة، قلت له كيف؟ قال: سرقه السارقون واستولى عليه اللصوص، ولعب في خيراته الأقوياء والمتنفذون، لم يعد وطنا، أصبح جحيما لا يطاق، ثم أردف قائلا : أتعرف عدد العرب الهاربين طوعا وكرها من أوطانهم المقيمين في هذا البلد العلماني، إنهم يتجاوزون مئات الألوف، ربعهم على الأقل أو أكثر هربوا بدينهم ومعتقداتهم بعد أن ضيق عليهم هناك وسجنوا وعذبوا بسبب ذلك. قلت له: إذن أنت ترى في العلمانية ملاذا من الاضطهاد الديني والتعسف الإنساني ؟. قال لي : هي كذلك، أنا أمارس عباداتي في المسجد القريب من منطقتي، وأصوت في الانتخابات البلدية والسياسية، وأشارك في جمعيات حقوقية . قلت له ما سلبيات العيش هنا ؟ قال السلبيات كثيرة كأي مجتمع إنساني، لكن الحرية هنا شيء مقدس ولا تعني الانعتاق من شيء كما كنا نعتقد في أوطاننا، لا تعني الانعتاق من العبودية أو التخلص من الاستعمار، أو من النظام الأبوي الصارم. لأن الاعتقاد بذلك يقوم على أن التخلص من شيء يعني السقوط في شيء آخر، كالتخلص من الاستعمار أورثنا العسكر والقبيلة، والتخلص من النظام الأبوي سيورثنا الوقوع في النظام الأمومي أو العائلي. الحرية هنا تعني شيئا مطلقا، هي الإنسان في ذاته بكل ما يحمله من صفات جينية واجتماعية . قلت له: لكنهم يأتون إلى بلادنا مهرولين، أجاب: يأتون بمفهوم الثقافة المتعالية التي حققت ذاتها الإنسانية، وتبحث عن مصالحها الدنيوية بناء على ذلك فالغربي يأتيك، وقد سبق له اختراقك ثقافيا، وحتى لو كنت أكثر منه علما وتحصيلا . قلت له: ماذا عن الإسلام ؟ قال لي: لا تخف الإسلام ينتشر هنا بالرغم من التشويه الكبير الذي يلحق به جراء ما نقوم به كمسلمين نحمل اسمه. واسترسل قائلا: أنا أحد الذين يدعون إلى القراءة عن الإسلام، وأدفع جزءا من راتبي لترجمة بعض الكتب عنه مع عدد من أصدقائي المقيمين هنا . واستمر قائلا: ليت إخواننا في وطننا العربي يدركون حساسية وضعنا في هذه البلاد ويرفقون بالإسلام الذي هو هويتنا، لا تعلم ما تسبب لنا اختلافاتهم وصراعهم حوله وحول مراميه. قلت له: ماذا عن الربيع العربي؟ قال لي: تصدق يا سيدي الفاضل أنني منذ أكثر من عقدين كنت متوقعا لحدوثه، وذكر لي سبب ذلك قائلا: كنت في إحدى دور النشر العربية هنا، ولاحظت اندفاعا كبيرا من جانب المصطافين والسياح العرب لشراء كتاب كان نازلا للتو.. في دور النشر اسمه "سيكلوجية الإنسان المقهور" الجميع يسأل عنه ويخبر الغير ويتوافد الجميع لطلبه، من بينهم شخصيات كبيرة بل ووزراء ومقربون، أدركت أن الجميع يعيش ويتمتع لكنه يدرك تمام الإدراك أن كل هذا شيء مؤقت، وأنه قائم على جرف هار لا يلبث أن يسقط في الأتون أو القعر، وأن سيكلوجية القهر متجذرة وإن ما يعلوها من طبقات هي أشبه بطبقات الشحم الذي لا يلبث أن يذوب . قلت له بعد ذلك: ألا تنوي العودة لوطنك وقال: سأعود حتما يوما ما، ولكن دعني الآن أحلم. [email protected]