14 نوفمبر 2025

تسجيل

قراءة أُخرى لخطاب سمو الأمير (1)

28 سبتمبر 2014

ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى خطاباً جامعاً من على منبر الأمم المتحدة خلال مشاركته في الجلسة الافتتاحية للدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم الأربعاء 24/9/2014. وهو أول خطاب لسموه في الأمم المتحدة. ولقد اتسم الخطاب بالشفافية والموضوعية، وتجاوز إنشائيات الدبلوماسية التي غالباً ما تتسم بها الخطابات في ذاك المحفل.وكان أول ما أكد عليه الخطاب هو الدعوة للحوار والمساواة، وهما قيمتان ثمينتان تؤكدان الحق في التحاور وتساوي البشر، دونما فرض أو إكراه. وهاتان القيمتان يرتكز عليهما النظام السياسي العالمي، وأيضاً تُشكلان دعامة النظام الاجتماعي بين البشر. ولقد أكد عليهما القرآن الكريم في أكثر من موقع (وشاورهم في الأمر.. وجادلهم بالتي هي أحسن )!. فالحوار لا يتحقق إلا باعتراف طرفيه بالمساواة دونما إشعار أي طرف بالدونية أو إظهار الاستعلاء، أو التهديد في الحوار. كما أَلحقَ سموه هاتين القيمتين بضرورة الإلتزام بأحكام القانون الدولي واحترام مبادئ حقوق الإنسان وحقوق الشعوب. وأعتقد أن العالم العربي والإسلامي — المسكون بالخوف والضجر والتسلط البوليسي — في حاجة إلى الالتفات إلى هذه القيم، لأن عدم الالتزام بأحكام القانون الدولي يجعل من هذا العالم " غابة " يأكل كبيرُها صغيرَها، ويتغّول قويُها على ضعيفِها، وبذلك تضيع حقوق البشر. كما أن حقوق الإنسان — في أغلب بقاع هذا العالم العربي والإسلامي — ما زالت مُنتقصة، ويعتمد التعامل مع الإنسان على المزاجية، وعلى "مقاربات" أكثر ما يمكن أن يُقال عنها أنها تجترئ على حقوق الإنسان، وتخالف القيم والأعراف. كما أن احترام حقوق الشعوب — تعني ضمن ما تعني — حق المواطنة، بكل ما فيها من حقوق وواجبات، وحق العمل وحق تكافؤ الفرص وحق التعبير وحق الأمن وحق التعامل على أساس من المساواة، طبقاً لما نص عليه الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان. ولقد وُفقَ سموه حفظه الله في الإشارة إلى هذه القيم التي تحتاجها بقاعٌ شتى من العالم العربي والإسلامي.ولقد أشار سموه إلى القضية الإنسانية العادلة للشعب الفلسطيني، وضرورة وقف حرب القوة التي تمارسها إسرائيل في (غزة) واستهداف المدنيين بلا رحمة، والدمار الشامل الذي أحدثه العدوان على (غزة) أمام مرأى من العالم، ولم تتحرك القوى الفاعلة للضغط على إسرائيل وكبح جماح آلة العدوان ضد الشعب الفلسطيني الأعزل. وطالب سموه مجلسَ الأمن بأن يتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، ويبتعد عن " الانتقائية" التي اتسمت بها معالجاتُ هذا المجلس للقضية الفلسطينية. كما طالب بتطبيق بنود الفصل السابع من الميثاق بإلزام إسرائيل بإنهاء احتلال عام 1967 وتنفيذ حلِّ الدولتين حسبما توافق عليه المجتمع الدولي.وفي حقيقة الأمر، فإن القضية الفلسطينية ما زالت تعيش في وجدان المخلصين من العرب — الذين لم يتخذوا من القضية " تجارة " لبناء القصور في المنافي — الذين يطالبون بأدنى ما يُمكن تحقيقه، وهو عودة الحق لأصحابه وفقَ ما توافق عليه المجتمع الدولي من خلال قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وما زالت المطالبات تتكرر نحو تفعيل تلك القرارات بما يضمن عودة تلك الحقوق لأصحابها، ووقف عنف آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية، وأن يعيش الشعب الفلسطيني بكرامته مثل بقية الشعوب، وتنتهى آخر حلقات الاستعمار الحديث. وهذا ما توكد عليه ليس المواثيقُ الدولية فحسب، بل تطالبُ به كلُ الشعوب المتطلعة للحرية والكرامة.القضية الأخرى التي تطرَّق إليها خطاب سمو الأمير كانت القضية السورية، وهي مأساة شعبٍ أراد أن يعش بحرية وكرامة مثل بقية الشعوب!. ولا يجوز " تأثيم" هذا الشعب عندما رفع رأسه مُطالباً بتلك الحرية وتلك الكرامة. لكن المأساة قد تجاوزت الحد، بعد ثلاث سنوات من العنف الذي مارسته آلةُ الحرب الرسمية، وتدُّخل الأطراف الأخرى في الساحة السورية. حيث حصدت الحربُ أكثر من 200 ألف شخص، وشرَّدت الملايين — ما يقارب نصف الشعب السوري داخل وخارج سوريا — وتأخر المجتمع الدولي ثلاث سنوات ليتداعى في هذا الشهر بتكوين تحالف دولي لتوجيه ضربات لعناصر الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا، نظراً لارتكابهم أعمالاً وحشية لا يُقرها القانون ولا القيم ولا المنطق. ذلك أن اختلال الأمن في سوريا أتاح الفرصة للخلايا النائمة وانتعشت " شرنقات" الإرهاب وذاق الشعبُ السوري ويلات تلك الممارسات ضد الإنسانية، الأمر الذي أوصل هذا الشعب إلى مأساة حقيقية وصفها سمو الأمير بأنها " كماشة إرهاب النظام وإرهاب القوى المتطرفة التي نَمت في مستنقع العنف ". كما طالب سموه مجلسَ الأمن بأن يتحمل مسؤوليته القانونية والإنسانية على وجه السرعة لدعم الشعب السوري ضد الخطرين المُحْدقين به، خطر إرهاب النظام وخطر القوى الإرهابية، وفي ذلك رسالة واضحة بأن المجتمع الدولي لم يعد يستحمل ممارسات ذاك النظام أو سوءَ موقفه من شعبه، ولا بد — بعد 3 أعوام من تلك الممارسات وحرب براميل النار والأسلحة الكيماوية وتدمير البيوت على رؤوس أهليها — من تدَّخل دولي، وقرار واضح من مجلس الأمن يُجبر النظام الاستجابةَ لتطلعات الشعب السوري وخياراته العادلة لنَيل حقوقه الأساسية وكرامته المُنتهكة.الموضوع الهام الذي تطرق إليه سمو الأمير في خطابه الشامل هو موضوع الإرهاب، الذي ظهر بأشكال ونماذج عدة، طالت حالات التفكير والاعتقاد والحياة ؛ لدرجة المساس بالمعتقدات الإسلامية السمحاء، واتخاذ ذلك مطية لارهاب الناس وترويعهم وقتلهم دون حق وتأليب الرأي العام العالمي ضد كل ما هو إسلامي. وفي حقيقة الأمر، فإن إدخال الدين في السياسة، كان من أكبر الأخطاء التي أقدمت عليها الجماعات المتطرفة، والتي انتهجت العنفَ طريقاً لزعزعة الأمن والاستقرار في عدة مناطق في العالم، لعل أبرزها في العراق وسوريا. ولقد أتى سمو الأمير بمعادلة واضحة عندما أشار إلى أن المجتمعات يجب ألاّ " نُخيّرها بين الارهاب والاستبداد، أو بين الارهاب والتمييز الطائفي "!؟. وكانت هذه من المحطات الهامة في خطاب سموه، إذ أن الاستبداد وسوء استخدام السلطة من عوامل نشوء الارهاب وانتعاشه؛ مهما طال أمدُ (صبر الشعوب ). كما أن (التمييز الطائفي) أو الفصل العنصري — مهما كانت أشكاله — وهو أمر مُطبَّق وبائن في العديد من الأنظمة العربية والإسلامية، يُهيئُ المناخات لظهور الحركات الارهابية التي تقضُّ مضجعَ الشعوب والدول على السواء، وتعرقل خِطط الدول نحو إقامة الدولة العصرية وتحقيق التنمية للشعوب. وهذا ما عناه سمو الأمير في إشارته إلى العراق، وضرورة وقوف المجتمع الدولي " بحزم إلى جانب العراق الشقيق لمواجهة الإرهاب، للخروج من محنته والحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه وتنوع طوائفه". ودعا سموه إلى " نزع فتيل الصراع المذهبي وتحقيق المصالحة العراقية ". ونعتقد بأن هذا هو الحل الأمثل لعودة العراق سالماً معافى إلى أهله وعروبته. كما أن الاحتكام غير العاقل لـ " أوزار" التاريخ وأخطاء الماضي، وإلزام المجتمع العراقي (المتعدد الطوائف) على العيش بـ " الاستلذاذ" بتعذيب الذات بتكرار تلك الأوزار والأخطاء، من الممارسات الخاطئة وغير الحضارية لشعب متحضر، وهي لا تخدم لا العراق ولا العراقيين.تطرق سمو الأمير أيضاً إلى الأوضاع في كل من ليبيا وتونس واليمن، وأشار سموه إلى خطوات دولة قطر في برامج التنمية استناداً إلى خطة 2015 ورؤية قطر 2030، الهادفة لتحقيق التنمية في شتى المجالات على المستوى الداخلي. وفي هذا الشأن لابد من الإشارة إلى تبوؤ دولة قطر المراكز المتقدمة في قوائم الرخاء الاقتصادي وارتفاع معدلات التنمية. وحرص الدولة على تقديم المساعدات للشعوب الأخرى، حيث بلغت المساعدات الإنسانية الحكومية 2ر2 مليار دولار، والمساعدات غير الحكومية 390 مليون دولار، وهو جزء يسير من إلتزام دولة قطر بمساعدة الشعوب الأخرى، ورفع معدلات التنمية فيها. وهذا يردُّ على العديد من " أبواق الضجيج" التي تنعت دولَ الخليج بأنها " نادي للأغنياء " فقط.خطاب سمو الأمير حفظه الله لم يكن عادياً، ولمسَ جوانبَ عدة مما تأمله الشعوب المُحبة للسلام والأمن والرخاء، ووضعَ الخطابُ الأمورَ في مكانها المناسب بكل شفافية ومسؤولية.