14 سبتمبر 2025
تسجيلبدأت هذه الزاوية في المقالة السابقة عن التغيير وضرورته ورياحه التي بدأت تهب علينا، لكن لماذا التغيير وما هي دواعيه وضروراته؟ ألسنا نعيش - على اختلاف نمط الحياة في كل بلد عربي - بشيء من الرفاهية وقدر معقول من التمدن؟ أليست الحضارة تتمثل في بناء جميل وطرق معبدة طويلة ورفاهية ممكنة وإمكانية الحصول على كل شيء؟ أم أن الحضارة شيء آخر؟ أود بداية قبل أن نتكلم عن مفهوم الحضارة أن يكون كل قارئ منكم - وأنا أعتز بكم جميعا - مشاركا إيجابيا بالطريقة التي يحسنها، وأن نتشارك جميعا في وضع الرؤى وتبادل الأفكار وصنع التغيير، فهذا ما دعاني للكتابة وهذا ما جعلني أطلق برنامج رياح التغيير والذي سيكون عنوانا شاملا لمقالاتي في هذه الزاوية. تعريف الحضارة الحضارة كلمة جديدة بلفظها، وهي نادرة الاستخدام في الأدب والشعر العربي القديم، وحتى في الماعجم اللغوية القديمة مثل" لسان العرب " لا تكاد تجد لها ذكراً، ولم ترد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية المطهرة، ولعل أقرب مرادف لها في القرآن الكريم (التمكين في الأرض) و(الاستخلاف في الأرض). ولما تأملت ما كتبه المفكرون حول مصطلح الحضارة خلصت إلى أن حضارة أمة ما في حقبة زمنية معينة يُقصد بها " المنهج الفكري للأمّة، المتشكل في إنتاج معنوي ومادّي ". بهذا التلخيص الموجز أستطيع أن أقول إن الحضارة ليست فقط بناء مزدهرا ولا عمرانا متألقا أو حياة سهلة جميلة مزدهرة - وإن كان هذا كله علامات ونتيجة طبيعية للحضارة - لكنها تبدأ بالفكر والمنهج المنير والبحث العلمي والتفكير الإبداعي والحر وإعمال العقل في كل مناحي الحياة، إذا كان كل هذا موجودا في أمة ما فإنها تبدأ حضارتها وستعلن عنها من خلال الإنتاج المعنوي المتمثل بالقيم والقوانين والأخلاق ومن خلال الإنتاج المادي المتمثل بالاختراعات والاقتصاد والرفاهية والتطور والبناء وغيره. الفكر أساس الحضارات إن أيّ أمة لا تملك فكراً منهجياً واضحاً فإنها لن تستطيع بناء حضارة، وإن بنت فلن تعمّر طويلاً، فهذا النبي (لما توفي تاركاً الدنيا، لم يخلّف وراءه قصوراً فارهات، ولا مباني شاهقات، ولم يكن حريصا على أن يكدس الأموال، لم يورّثهم سوى الفكر، فترك من خلفه رجالاً يحملون فكراً، وبه انطلقوا ليفتحوا العالم، وينشروا نور الإسلام وضياء الحق، ويضيئوا مواطن الظلمة من هذا العالم، لذا كان الفكر الإسلامي الأصيل سبباً من أسباب بقاء أمة الإسلام، وامتداد أثرها، وعدم انهيارها مع كل ما تعرضت له من مكائد على يد أعدائها وخيانة على يد أهلها ومصائب وانهزامات. وفي المقابل نجد المغول، تلك الأمة الطاغية الشرسة التي بنت أمجادها على غيرها من الأمم، سيطرت على غيرها بالقوة والجبروت، ولأنها لا تملك فكراً سرعان ما ذاب أبناؤها في عقيدة الإسلام وشريعته، لمّا تعرفوا عليهما عن قرب. ولهذا أقول: إننا اليوم نحاول أن نعيش على اختراعات الغرب ونتمتع بتقليد حضارتهم، وليس في هذا ضير طالما أننا نستفيد مما لا حرمة فيه، لكن الضير أن نكون متطفلين على حضارات الأمم، فلا نحن أفلحنا أن يكون لنا نهجنا الخاص ولا نحن استطعنا أن نقدم إنتاجا ماديا نفتخر به ويكون نتيجة لفكرنا وبحثنا ورؤيتنا. الحضارة فكر وإنتاج فالحضارة فيها جزءان (فكر وإنتاج)، والفكر يشمل المبادئ والقيم والطموحات، وفهم الحياة، فبدون الفكر لا توجد حضارة، والفكر وحده لا ينتج حضارة، بل يجب أن يكون هناك إنتاج معنوي ومادي، يعبر عن روح هذه الحضارة، ويميزها عن غيرها من الحضارات. فلا يسمى حضارة ما كتبه العلماء والمفكرون، وبقي حبيس الكتب ولم يطبّق عملياً، لا يسمى حضارة بل هو فكر، وأي إنتاج مادي من مبانٍ ومصانع وفنون، أيضاً لا يسمى حضارة، طالما أنه لم يستند إلى فكر. من أمثلة الإنتاج المعنوي: الشعر، الفن بأشكاله وأنواعه، الأدب، الاقتصاد، الذوق..إلخ ومن أمثلة الإنتاج المادي: المباني، التكنولوجيا، القوة العسكرية، المصانع.. إلخ. مقومات الحضارة الإسلامية ما مقومات الحضارة الإسلامية العظيمة..؟ هل اندثرت هذه المقومات..؟ أم أنها باقية ما بقي الإسلام..؟ هل يمكن أن تعود حضارة الإسلام من جديد..؟ أسئلة تراودني وتراود الكثير، بل لعل البعض يصل به التفكير إلى أن الإسلام هل يستطيع أن يكون صالحا لبناء حضارة في هذا العصر المتسارع دائم التغير؟ إن هذا التفكير نابع من أمرين، أولهما: غياب حضارة إسلامية حقة في هذا الزمن وسرعة تطور الحضارات الأخرى مما لا يعطي البعض فسحة للتفكير بشيء اسمه حضارة إسلامية. والثاني: أن البعض يظن أن مقومات الحضارة الإسلامية هي مقومات بسيطة جاءت في زمن ما وواكبت تغيرا مرحليا لكنها لا تجاري التغير الهائل والتطور المدهش الذي تشهده الحياة اليوم. ربما يطول الجواب عن السبب الثاني لكنني ألخص الرد بأن من يظن هذا فإنه لا يملك دراية كافية وعميقة لطبيعة الأحكام والمنهج والرؤية في الإسلام، وإن الإسلام إذا هيئت له الظروف كان سيدهش العالم رغم تطوره الهائل كما أدهشه سابقا رغم تخلف الكبير. خلافة آخر الزمان على منهاج النبوة روى الإمام أحمد في مسنده من حديث حذيفة (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ)). بشرى وأمل هزني هذا الحديث لمـا قرأته أول مرة، هزّني لأن كل ما حولي يشير إلى الظلمة والظلام، ويبعث على الحسرة والإحباط، ويدعو إلى اليأس من التغيير، فلّما قرأت هذا الحديث انبعث في نفسي شعاع الأمل من جديد، فالحديث صريح في أن الأمة ستمر بمراحل ومنعطفات، ولكن في نهاية الحديث يبشرنا النبي (أن الإسلام قادم، وأن حضارة الإسلام ستعود من جديد، وأن الخلافة الراشدة سترجع من جديد، بعد فترة الحكم الجبري، الذي يحكم فيه الساسة بالحديد والنار، وتصادر فيه كرامة الإنسان وحريته. والسؤال المطروح بقوة، هل ننتظر مجيء المخلّص الذي سيعيد مجد الإسلام..؟ وهل سنجلس منتظرين خروج المهدي الذي سينشر العدل في الأرض..؟ هل سنفعل ذلك أم نأخذ بالأسباب ونجتهد في إيجاد وإعادة هذه الخلافة الراشدة. ثورات سياسية.. ومبادرات ناقصة لقد غيرت الثورات العربية تغييراً سياسيا محضاً، وربما يكون هذا التغيير السياسي أيضا دون المطلوب لكنه رائع مقارنة بما كانت عليه الحال ومبشر في أمله ومستقبله، إلا أننا لم نصل إلى التغيير الحضاري الشامل الذي ننشده، ونتطلع إليه. لقد اطلعت على كثير من المبادرات التغييرية المطروحة في الساحة العربية، فلمست صدق النية، والرغبة الشديدة في التغيير، لكنني اكتشفت فيها نقصاً متشابهاً، وعيباً مشتركاً، ومن ذلك: 1- لا تسير على نسق واحد، ولا تصب في هدف واحد. 2- نقص المنهجية العلمية الواضحة عن تلك المبادرات. 3- غياب علم الإدارة الحديث، الذي من شأنها أن يجعلها أكثر منهجية وواقية. وحتى يكتمل الكلام ونفصل الفكرة سيكون المقال القادم في هذا الاتجاه بمشيئة الله تعالى. أسأل الله أن يجعل رياح التغيير تنبت ربيعا حضاريا.