10 سبتمبر 2025
تسجيلضرب "الزلزال" العالم، هذا الوصف السياسي المتداول هو أكيد لما نتج عنه استفتاء المملكة المتحدة وخروجها من الاتحاد الأوروبي، وهذا الزلزال لم يكن الخاسر الوحيد فيه الاتحاد الأوروبي الذي بات عدد من بلاده تنحو إلى اتباع سبيل بريطانيا، بل إن بريطانيا نفسها باتت مهددة بالزلزال الانفصالي المرتد، فقد عادت أسكتلندا للحديث عن إعادة استفتاء الانفصال عن التاج، وسيلحقها أيرلندا العدو الصديق القديم داخل جزيرة المملكة، ولكن ما الذي سينعكس عليه حال العالم العربي إذا ما عادت أوروبا إلى عصر القبائل. عصر القبائل الجرمانية والأنجلوساكسون والقوط والسلاف والفندي والأمانيون والختايون والفرنج والأرمن والبلاطقة قد عاد من جديد إلى قلاع أوروبا المدنية الحديثة المتطورة، وذلك بفضل الروح الانفصالية والشوفينية العالية المستوى والتعالي حسب منطق الإقطاع لدى اليمين واليمين المتطرف في أوروبا، والأحزاب التي بدأت في التفكير البراغماتي وحسب مصالحها الاقتصادية، وكذلك الأحزاب المسيحية التي تدفع إلى العودة للجذور الأوروبية المتوائمة مع تعاليم الكنيسة، كل هذا سيرتد بلا شك على القارة البيضاء، وهذا بالتالي سينعكس على جيرانها في حوض الأبيض المتوسط وهم الدول العربية المتفككة أصلا وتركيا.من خلال رصد ردود الفعل لذلك الحدث الذي ضرب أسواق العالم، وجدنا أن غالبية العرب متوجسون من نتائج الاستفتاء وخروج بريطانيا من الاتحاد، ولكن هناك كثير من الآراء والتعليقات تحمل أفكارا غير مفهومة، حيث الشماتة من الاتحاد والتفاؤل بتفككه، وعودة أوروبا إلى القيود الحدودية والانكفاء على المنطق الشعوبي، وكأن أوروبا قد عطلت وحدتنا العربية قبل عشر أو عشرين أو خمسين سنة، على الأقل بعد انسحاب الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وهذا تفكير غير منطقي.إن خطر خروج بريطانيا ليس في ما جرى، فهم غير منسجمين منذ البداية، ولكن هذا ما أعطى الروح المعنوية العالية التي تم ضخ دمائها في شرايين الأحزاب المتطرفة واليمين الأوروبي، وهذا ما سينتج عنه بداية مرحلة فكر العصور الوسطى، حيث النظرة المتعالية لشعوب الغال والأوروبية الأخرى، سيجد المسلمون هناك أنهم باتوا أكثر عزلة، وأكثر مطاردة من ذي قبل، فالمسلم متهم داخل مجتمعه بناء على أفكار اليمين المتطرف والحركات الشعوبية، وهذا لن يحقق فعلا أي تقدم في التعايش الإنساني والسياسي المنشود مع شعوب الحوض الأبيض المتوسط،خصوصا بعد أفواج وأمواج المهاجرين السوريين الذين امتلأت بهم شواطىء أوروبا وبطون حيتان البحر.ما الذي يهمنا مما جرى؟ ليس كثيرا، ولكن لنتعظ ونأخذ الدروس: لم يكن للملكة وسلطة التاج البريطاني أو رئيس الحكومة ومجلس العموم أي دور في القبول أو الرفض، أو التأثير على مجريات الاستفتاء، فالشعب البريطاني باختلافاته ذهب إلى التصويت، وبفارق بسيط تغلب اليمين الانفصالي على دعاة الوحدة والبقاء ضمن المنظومة الأكثر أمنا وقوة عسكرية واقتصادية في وسط العالم، ومع أن رئيس الوزراء "ديفيد كاميرون" كان قد نافح وكافح للبقاء، فإنه لم يعترض على أي إجراء، وأعلن أنه لم يعد رئيسا لحكومة بريطانيا، وهو رئيس حكومة الوحدة، وهذا يتطلب انتخاب رئيس وزراء الانفصال، أو الاستقلال حسب زعيم الحزب " نايجل فراج ". كان يوم 23 يونيو بالنسبة لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون يوم الحزن الأسود، فكل ما كان يدافع عنه من قيم التقدمية السياسية والاندماج الحضاري مع الآخرين بات هباء منثورا، وأقل عضو في حزب الاستقلال البريطاني أو أي من المشردين الإنجليز يستطيع أن يقرّعه على السنوات التي مضت وهو يتلكأ في تحديد موعد الاستفتاء، فيما المارد الكبير الذي خرج مؤمنا بفكرة بريطانيا للبريطانيين،نايجل فراج، الذي لم يفتأ يقاتل منذ أكثر من عشرين عاما لإخراج بلده من صندوق أوروبا، ظهر اليوم بهيبة الإمبراطور المنتصر أمام العالم، ومع هذا فقد كان يتحدث كمواطن يعمل لصالح بلاده ومواطنيه.إن أوروبا التي أخذت اسمها من " إيروبا" ابنة بلدة صور اللبنانية، دارت فيها الكثير من الأحداث خلال القرون الماضية، ودخلت شعوبها في حروب مع بعضها وجيرانها الشرقيين، وغزت بلادا بعيدة، ثم عادت للحربين العالميتين لتقرر بعدهما النهوض مجددا، وكتابة دستور يحيي الشعوب على أسس ديمقراطية وحريات كاملة، وهاهي اليوم تتزعزع ولا يعلم أحد أي نهاية ستكون لها، ولكن اللافت أنه لم يخرج أي من القادة والزعماء هناك ليقرر الانقلاب على الاستفتاء أو إعلان الحرب على الانفصاليين أو فرض شروط فخامة الرئيس بالقوة العسكرية على رغبات الشعب رغم خطورتها، وهذا قطعا لم يحدث ولن يحدث في عالمنا العربي الذي حرق حكام بعض دوله ومسؤوليه، دولهم وقتلوا شعوبهم لأن سيادة الرئيس غير مقتنع بفكرة الترجل عن الكرسي اللاصق.. فهل تأخذ شعوبنا وحكامنا دروسا وعبرا من كتاب العالم المتحضر.