12 سبتمبر 2025
تسجيلنواصل الحديث حول كتاب «جدد حياتك» لمؤلفه د. محمد الغزالي.. وبينما ينصح (د. أوسلر) طلبته في جامعة (ييل) بأن يبدأوا يومهم بدعاء مأثور عن السيد المسيح يقول فيه: «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم»، فقد ورد عن إبراهيم الخليل دعاؤه في كل صباح يطلع عليه: «اللهم إن هذا خلق جديد فافتحه عليّ بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم»، وهو به يكون قد أدى شُكر يومه. غير أن البعض وهو لا يستشعر الآلاء العظيمة التي انغمس بها من طمأنينة وسكينة وسلامة في نفسه وأهله، يسخط على حرمانه من الثراء، وهو بهذا يكون قد غمط واقعه وأتلف دينه ودنياه. غير أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل والتخطيط له، بل إن هذا يُعدّ من رجاحة العقل، إنما الفارق هو بين «الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به». ويتساءل الغزالي بدوره ويجيب قائلاً: «أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله ويده صفر من أي خير». ثم يتساءل في موضوع (الثبات والأناة والاحتيال) عن ردة فعل المرء الذي تداهمه شدّة تهدد كيانه كله، ما هو صانع؟ أيقف شامخاً مطمئناً أم يدعها تهوي به؟ يجيب كارنيجي بخطة عملية ثلاثية، هي: أولاً: تحديد أسوأ ما قد يصيبه، ثانياً: الاستعداد للتقبل، ثالثاً: المواجهة ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن هذا يتفق وقوله ﷺ: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، وكما قال الفيلسوف الصيني (لين يوتانغ): «إن طمأنينة الذهن لا تتأتى إلا مع التسليم بأسوأ الفروض» وهو ما يؤكده علم النفس الحديث من أن التسليم يحرر من القيود، وكلما بقي المرء يقظاً لا يستبعد وقوع النوائب، ويقلّب وجوه الآراء ليختار أحكمها «فإن النجاح لن يخطئه». والغزالي بهذا ينبّه على الفرق بين التسليم واللامبالاة، فيقول: «إذا وجدت الصبر يساوي البلادة في بعض الناس فلا تخلطّن بين تبلّد الطباع المريضة وبين تسليم الأقوياء لما نزل بهم.. وأول معالم الحرية الكاملة ألا يضرع الرجل لحاجة فقدها». وإن الإيمان الحق هو ما يشدّ من عود المرء فلا يهزّه ريح، وإن صبر المرء على فجاءة النوازل لا يبرره سوى نفس أبية تهوّن كل فقد. وشتّان بين نظرة المؤمن وغير المؤمن، فإذا تصوّر أحد الماديين الحياة من التفاهة كصرصار يموت من ضربة عابرة يعود بها إلى العدم ويذهب طي النسيان، فإنها تُصبح عند المؤمن كذكرى حافلة بعد أن ينتقل إلى حياة أخرى أجلّ وأصدق وأكثر وعياً. ويحصر الغزالي في موضوع (هموم وسموم) ما أورده كارنيجي من الإحصائيات التي يظهر فيها بني جلدته الأمريكيين مرضى للقلق، تتلاعب بهم علل عضوية وعصبية ونفسية وعقلية، وفي مراحل عمرية متفاوتة لا يسلم منها حتى فئة الشباب، وقد تم تصنيف القلق بالقاتل الأول في أمريكا، وكل هذا سببه اللهاث المحموم نحو إحراز ما أمكن من المال ومتع الحياة الدنيا. ويتساءل «أهذا هو ثمن النجاح؟ هل يعد ناجحاً ذاك الذي يشتري نجاحه بقرحة في معدته ولغط في قلبه؟ وماذا يفيده مرضه إذا كسب العالم أجمع وخسر صحته؟». ثم يستتبع الغزالي هذا التساؤل بحكمته ﷺ: «إن هذا المال خَضِر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع». لا يجد الغزالي في موضوع (كيف نزيل أسباب القلق؟) مظلوماً تواطأ الناس على بخسه وتراخوا عن نصرته مثل (الحقيقة)! وإن هذا المظلوم له من العاملين به والعارفين لقدره القلة من الناس. وعن هؤلاء القلّة يقول: «والحق أن الرجولات الضخمة لا تُعرف إلا في ميدان الجرأة». فكم من دين تأسس على خرافة وأساطير وكم من سلطة حكّمت الهوى وأحالت الخير شرّا. فيقول: «على أن الاهتداء إلى الحق والثبات على صراطه يحتاج إلى جهد ودأب، ويحتاج كذلك إلى استلهام طويل من عناية الله. وقد كان رسول الله إذا حزبه أمر جنح إلى الصلاة يضم إلى عزيمته وجلده حول الله وطوله». غير أن السكينة في تلّقي الحقيقة مهما كانت وضبط النفس حول ما قد يشوبها من شكوك لهو مطلب أساسي في الوقوف على الحقيقة الدامغة ولا شيء غيرها، ومن ثم التصرف بحزم وإنفاذ القرار بعزم خالص.