14 سبتمبر 2025

تسجيل

ليلة وفاء (هلّ الجسرة)

28 مارس 2018

بمبادرة كريمة من (نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي) تم الاحتفال يوم الثلاثاء الماضي بتدشين السيرة الذاتية للموسيقار الراحل عبدالعزيز ناصر، وسط حضور ثقافي وإعلامي وفني جمع لفيفًا من أصدقاء ومحبيّ الراحل، وكذلك (هل الجسرة) وأعضاء النادي. ولقد توّجَ الحفل بأداء سيمفونية كتيبة موسيقى القوات المسلحة لعدد من ألحان عبدالعزيز ناصر والتي استلهمها الموسيقار مطر علي، وشملت الأغاني الوطنية، التراثية، العاطفية، الاجتماعية، والإنسانية. ولقد أدّت الكتيبة أداءً ممتازًا حاز تقدير الجمهور. ولهذا الحدث دلالتان مهمتان: الأولى: وفاء (هلّ الجسرة) لابنهم المبدع عبدالعزيز ناصر، وهو اتجاهُ حضاري عُرفت به منطقة (الجسرة) منذ القدم، كما أنه أسلوب مُتعارف عليه في الدول المتحضرة، كما حصل في أوروبا وأمريكا وأمريكا الجنوبية، حيث تم الاحتفاء وتخليد الأدباء والفنانين والمبدعين في المجالات المختلفة، أكثر من الاحتفاء بالقادة العسكريين أو الحكام أو الوزراء. ذلك أن الإنسان المبدع يختلف بالطبع عن الإنسان العادي، لأنه يترك بصمات له في عمق التاريخ. ونحن حتى اليوم نتذكر مبدعين رحلوا منذ عقود طويلة، لكنهم يعيشون بيننا عبر أعمالهم الخالدة. فمن لا يذكر من فازوا بجوائز نوبل في الآداب مثل: الفيلسوف والشاعرالهندي (1861) والمؤف والناقد الموسيقي الإيرلندي جورج برناد شو (1856) والأديب الألماني هيرمان هيسة (1877) والشاعر والمسرحي الأمريكي المولد البريطاني الجنسية توماس إليوت (1888) والروائي الأمريكي إرنست همنجواي (1899) والمؤلف المسرحي والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر(1905) والفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712) والأديب العربي (طه حسين)، وغيرهم ممن مَلأوا الدنيا بهجة وإبداعًا وابتسامات. تمامًا كما هو الحال مع الذين أمتعوا الناس في أعمالهم السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، ولعلنا نذكر هنا بعض الذين ما زلنا نسمعهم بشكل دائم مثل الموسيقار محمد عبدالوهاب، أم كلثوم، فريد الأطرش، عبدالحليم حافظ، عوض دوخي، عبدالحسين عبدالرضا، خالد النفيسي، حسين جاسم، محمد زويد، أبوبكر سالم، فرج عبدالكريم، محمد الساعي.. وغيرهم من الفنانين الذين أبدعوا وأحسنوا الأداء. وهذا الوفاء الذي تجَلى في الحفل، إنما يمثّل روح الشخصية القطرية التي تُدرك قيمة الوفاء كسلوك حضاري يُبنى على الصدق دون انتظار مكافأة. وهذا الوفاء يتحول — بطبيعة الحال — إلى الأرض، كما شهدنا وفاء أهل قطر للأرض عندما ادلهمّت الخطوب وتمت محاصرة البلاد من قبل "الأشقاء" الذين تناسوا قيمة الوفاء. والوفاء من شيم الكرام! وهي ميزة ترتقي بالإنسان إلى مَصاف الصديقين الأنقياء، الذين لم تلوثهم سوءاتُ الزمن، والرغبات الأنانية، أو ما عُرف بالتمحور حول الذات (Echoism)، والذي يتمثل الشخصُ نفسه الوحيد في هذا الكون ولا يحتاج لأحد، ولا يقتنع بجدوى انتمائه أو تواصله مع الآخر، وهذا يُنمّي لديه صفة الحجود التي تَفتُّ في عضد المجتمع، وتعرقلُ مسيرة التنمية في البلاد. أما الدلالة الثانية: فهي قدرة المبدع على إسعاد الناس، والمشاركة في أفراح وأتراح الوطن، وهذا ما قامت به سيمفونية كتيبة القوات المسلحة ؛ حيث أدّت الألحان التي وضعها الموسيقار مطر علي خير أداء! وتجلّت الأمسية في دقة الأداء وجماله، خصوصاً حُسن اختيار الموسيقار مطر علي للألحان التي صاغها الراحل عبدالعزيز ناصر، حيث قدّم لنا لوحة تعبيرية عن اتجاهات عبدالعزيز ناصر، ما يُغني عن ألف كتاب! إن الدقائق التي عشناها مع هذه الفرقة أسعدتنا، وجعلت روح عبدالعزيز ناصر تحضر إلى مسرحهِ، حيث شعَر بذلك الذين عاصروا الراحل وتمايلت رؤوسهم مع اللحطات المعبّرة، وأخذهم ذلك إلى أيام إعداد تلك الألحان سواء في فرقة الأضواء الموسيقية أم في مرحلة دراسة عبدالعزيز ناصر في القاهرة، حيث كانت من أخصب المراحل في حياته الموسيقية. ولقد أرجعتنا السيمفونية إلى عام 1976، وهو العام الذين التقيت فيه الفقيد في فرقة الأضواء. إن عبدالعزيز ناصر أيقونة فنية وإنسانية خالدة، ولمَ لا!؟ وهو الذي عزّز حبَّ الوطن في قلوب القطريين، وهو الذي ربطهم بالأرض الطيبة، وما أجملها من عبارة ردّدتها حنجرةُ الفقيد، عندما كتب ولحّن: "يا قطر يا قدر مكتوب.. في كل لحظة يتابعنه.. لا أحد يا قطر عن ترابج يفرقّنه.. عمري قطر...روحي قطر.. يا أم الكرم والجود.. عمري قطر.. لأجلك قطر.. نشتاق ونعود.. عيني قطر.. عمري قطر.. أفديج أنا بروحي عمري قطر.. لأجلك قطر.. إتهون أنا جروحي." لقد حمل عبدالعزيز جُرحهُ وغادرنا إلى مكان آخر في الملكوت، لكن ألحانه باقية تلامس ترابَ هذا الوطن، وتُذكِرنا بمحنة الفقيد مع حب الوطن ومع المرض الذي عانى منه طويلاً. كم واسى عبدالعزيز المغتربين عن أوطانهم (جيتك يا قطر)؟ وكم ذَكّر العربَ بقضيتهم المنسية (أحبك يا قدس)؟ وكم صوّر الإنسان المحتاج للمساعدة كونه إنسانا (أنا إنسان)؟ وكم ركب أكثر من (سفينة للأحزان)؟ وكم صمت عن صخب الإعلام وتوارى عن أعين الكاميرات، رغم ثراء معلوماته وفلسفته واتساع أفق تفكيره؟ هكذا هم المبدعون الحقيقيون الذين لديهم رسالة ليست لأنفسهم أو لمجتمعهم فقط، بل للبشرية جمعاء. رحيل عبدالعزيز فعلاً آلَمَنا، لأنهُ فقْدٌ عزيز، لكن حظَّ عبدالعزيز حتماً كان أكثر من حظوظنا ؛ لأنه احتل ذاكرة محبيه، وظل حاضراً في أفراحهم وأتراحهم. وفي ذات الدلالة، وهي قدرة المبدع على إسعاد الآخرين وتخليد ذكرى من فقدوا، وجدنا الموسيقار مطر علي في تفاعله من قضية الحصار وقيامه بإنتاج الأغاني الوطنية المُعبّرة عن الموقف، تمامًا كما وجدنا ألحانه حاضرة بقوة في سيمفونية (عبدالعزيز ناصر)، ولسوف يكون الموسيقار مطر علي بإذن الله امتدادًا لفن عبدالعزيز ناصر؛ لما يمتلكه من قدرة على الإبداع وسعة في التصوير ودقة في التنفيذ. وأخيرًا، كانت ليلة وفاء حقًا، استحضرت الذكرى وأثارت الشجن، وجمعت محبي عبدالعزيز ناصر في جوٍ من المحبة والأخوة والانتماء لقطر. فشكرًا لنادي الجسرة الثقافي الاجتماعي على هذه التظاهرة الأدبية الفنية، والشكر موصول لكل من ساهم في إنجاحها.