19 سبتمبر 2025
تسجيلعندما تتعدد المخارج، فإن الإنسان يقف حائراً أي مخرج يسلك، وكل يرغب بطبيعة الحال أن يسلك طريق السلامة، وكما أن هناك مخرجاً للسلامة يُوجد كذلك مخرجٌ للندامة وطريق للهداية وحسن الخاتمة، وآخر للهاوية وسوء الخاتمة، ومن أعقد الاختيارات وأصعبها وأشدها أثراً على النفس، هو الاختيار الفكري لانطوائه على محاذير ومخاطر قد لا ترتبط بالشخص ذاته بقدر ما تؤثر في الآخرين إن كان سلباً أو إيجاباً، بموجب الآراء المتكئة على هذه الفكرة أو تلك فيما ينبثق الفكر السليم من القلب السليم، والضوابط لسلامة القلب محددة بأطر من شأنها تسهيل المسالك وتيسيرها وإنارة الطريق، ومن ذلك سلامة المبدأ وصدق الاعتقاد، وجلب المصالح ونبذ المفاسد، وحينما يرسم الإنسان لنفسه التصوُّرات الصائبة وتُبنى قراراته على ضوئها يُخضع ذاته لنوع من التطويع، لتسير وفقاً لما يراه لا كما يهواه، فقد يتقاطع الهوى مع الرؤية، وتتقاطع الرغبة مع المصلحة المنشودة كأن يحقق رغبة تنفعه وتضر الآخرين معنوياً كان ذلك أو مادياً، حينئذٍ فإنها لا تُعتبر مصلحة بل مفسدة، قياساً على الضرر المترتب من إتيانها، وليست العبرة في الفائدة التي يجنيها، بل العبرة في إخضاعها وإدراجها في الإطار العام المنظم لعلاقة العبد بربه، وخلوها من الشبهات والمفاسد، على حين أن اتقاء الشبهات من الحكمة بمكان والنأي عن الوقوع فيها سيجنِّب الإنسان الشكوك المؤذية والهواجس المقلقة. ومن أشد الأمور إيذاءً للنفس هو إلحاق الضرر بالآخرين، لذلك كانت الحقوق الخاصة من الأهمية بمكان، بل إن الإنسان يظل مصيره معلَّقاً بالحق الخاص حتى بعد مماته، لاسيَّما إذا كان صاحب الحق قد قضي، فربما يصفح الورثة ويعفون عن حق مورثهم، إلا أنه يظل صاحب الحق في ذلك، وأمر ذلك ومردّه عند علاّم الغيوب سبحانه العادل في ملكه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}.. فينبغي الحيطة والحذر من الحقوق المتعلِّقة بالناس، والحرص على تطويع النفس وتهذيب الفكر وألا يجهض الاندفاع والحماس على التأني والتدبُّر، والبواعث على ارتكاب المخالفات تتكئ على العوامل المهيئة لبروزها، وتجسيدها واقعاً كئيباً تعيساً كالغضب، والتشنج، والمكابرة، ويلعب كذلك الحماس المفرط دوراً لا يقل أثراً في دفع النفس نحو طريق المهالك، إذ إنه في بعض الأحيان يكون أشبه بالمخدر ليغيّب العقل عن الوعي ويسهم هذا الغياب في إماتة القلب إثر هذا الانفصال عن المشاعر المتزنة والأحاسيس التي توقف عنها التدفق، لأن المضخة الرئيسة أصابها العطب، لتصاب بالشلل الحسي، أي أن هذه الفترة وقد تكون وجيزة، كفيلة بإقفال مخارج الخير، ويبيت التحلُّل ممن أصابهم أمر محالاً خصوصاً مَنْ قضي منهم، ليقبع تحت مطرقة الضمير المؤلمة إثر مخالفته لخالق هذه الأنفس التي لا ينزعها إلا هو، أو بالحق الذي أمرنا بإحقاقه، وتطبيق هذا الحق يخضع لاعتبارات عدة، وممن اؤتمنوا على تطبيقه، وهذا من رحمة الخالق بعباده، وإلا لكانت أرواح الناس رهناً لقياسات الآراء المختلفة. بكل ما تفتقر إليه من مسوغات، وإحاطة كاملة، فلم يكن القضاء والقضاة إلا محققين للعدل الذي أمرنا ربنا بإقامته، وحكم القاضي ينطوي بطبيعة الحال على التثبُّت، والقرائن، والأدلة، بل إن من يصدر في حقه حكم معين يحق له طلب الاستئناف، أي أن استكمال الأدلة المعززة للحكم من الأهمية بمكان، فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بالأنفس المؤمنة التي عصمها المولى، وتوعَّد من تعمَّد قتلها، بالخلود في النار، وغالباً ما تنشأ القرارات الخاطئة معززة بالتسرُّع بهذا الخصوص ومن قوة التأثير، وفقاً لأسلوب الإقناع الذي يتم من زاوية واحدة، لبلوغ هدف محدد بغض النظر عن الإحاطة بتبعاته التي تُهمل، فضلاً عن خروجه عن صيغة الإجماع المؤصل للرؤية الموضوعية المتزنة، ومن المخوّلين الضالعين بهذه المسائل، الذين لا تنقصهم الدراية، وتجنيب الأمة وأفرادها مغبة التنافر والشقاق والتناحُّر المؤدي لتكريس الأحقاد في النفوس، والضغينة في القلوب، ويؤدي التحطم المعنوي، والأذى النفسي الرهيب الذي يلحق أسر من يكون أبناؤهم وقوداً لهذا الجهل المشحون بالحقد والغل إلى تحطيم الأساسات الموغلة في الترابط الأسري، وحينما تفقد الأسرة عائلها، ويغيب حنان الأب إلى الأبد، فإن هذا بلا ريب مدعاة لنشوء الاضطراب لدى الأطفال، وينمِّي مشاعر الكره والعداء، فضلاً عما يلحق الأسر من تفكك وتشرذم سيحمل وزرها من تسبب في حدوثها، فبات حرياً تحكيم العقل والركون إلى الحكمة والتحري والتثبُّت من الأمور بنظرة ثاقبة، وإيثار طريق السلامة بكل ما يحتويه من حذر من إلحاق الأذى بالآخرين والإدراك بأنه سيقف أمام من يحيي العظام وهي رميم فالحسابات الرابحة هي الشاهد حينئذٍ على حسن النية وسلامة الطوية، وقلوب سليمة من كل ذنب وخطيئة.