10 سبتمبر 2025
تسجيلتحتل فكرة مركزية الحضارة الغربية موقع الصدارة خلال التاريخ الحديث والمعاصر، مسبغة على العالم رؤية أحادية غير قابلة للتغير والنقض على المستوى المنظور، وحتى مع التبدلات التي تطال تلك البنية المتماسكة أيدلوجية كانت أو فكرية أو اقتصادية أو سياسية، تبقى قواعد تلك المركزية ثابتة غير قابلة للتراجع، وفي هذا السياق يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان)، "أن الانسان الغربي عوضاً من أن يضع الجنس البشري في مركز الكون وضع الجنس الأبيض في هذا المركز، ووضع بقية البشر مع الطبيعة/المادة في الهامش، وبدلا من أن يكون الهدف من الوجود في الكون هو تحقيق مصلحة الإنسان، أصبح الهدف هو تحقيق مصلحة الإنسان الأبيض، وبدلا من الإيمان بأسبقية الإنسان على الطبيعة أصبحت المسألة هي أسبقية الإنسان الأبيض على الطبيعة وبقية البشر". ويمكن توصيف تلك الصورة بالقول بأنها ليست إفرازاً للتفوق الحضاري الأوروبي ومنجزاته وحسب، بل أنها مرتبطة بنظرة متعالية مستمدة من شرعية ماورائية وأفضلية عرقية. تتمحور هذه النزعة الأوروبية في كثير من المجالات، انطلاقاً من الماضي وصولاً إلى الحاضر، وقد تركزت عبر التاريخ، في النشاط الاستعماري الأوروبي تحديداً، ففي الوقت الذي وطأت فيه قدما المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس أراضي القارة الأمريكية، في عام 1498، ظن حينها أنه بلغ شبه القارة الهندية مثبتاً نظرية كروية الأرض وإمكانية الالتفاف عليها عبر الإبحار غرباً، وعلى أن تلك النظرية صحيحة في مجملها، إلا أن جهل الأوروبيين آنذاك بوجود أراضٍ بعيدة في الغرب ونتيجة لسوء فهمهم للجغرافيا حينها، أطلق المستكشفون الأوروبيون على شعوب تلك الأراضي تسمية "الهنود الحمر"، ظناً منهم أنهم بلغوا أراضي شبه القارة الهندية!، والطريف في الموضوع أن التاريخ الذي يدونه المنتصر دائماً اعتبر كولومبوس هو المستكشف الأول للقارة الأمريكية متجاهلاً وجود شعوب فيها اكتشفتها واستعمرتها قبلهم بقرون، حتى جاء الأوروبي بغطرسته وأبادها ودمر تاريخها، وما تزال البقية الباقية من تلك الشعوب تعاني التهميش والازدراء في أراضيها إلى يومنا هذا. بعد تلك الأحداث بسنوات، قرر المستكشف البرتغالي فرناندو ماجلان الالتفاف على الكرة الأرضية عبر الإبحار غرباً، عابراً المحيط الأطلسي وصولا الى المحيط الهادي، لاستكشاف طريق جديد يؤدي إلى آسيا عموماً وإلى جزر التوابل على وجه التحديد، وهي أرخبيل من الجزر تشكل جزءاً من إندونيسيا حالياً، وقد كانت تلك الجزر محكومة من قبل عدد من الملوك ينفرد كل منهم بملكه، وعلى الرغم من نجاح تلك الرحلة في الالتفاف على الكرة الأرضية والعودة إلى أوروبا من جهة الجنوب، إلا أن ماجلان لم يكن على متنها، حيث لقي حتفه في معركة "ماكتان" الشهيرة التي دارت في جزر الفلبين على يد القائد المسلم "لابو لابو"، والذي رفض الانضمام إلى حلف ماجلان واعتناق المسيحية كغيره من ملوك تلك الجزر، واستبسل في مقاومة الغزاة ورفض الاستعمار الأوروبي لبلاده حتى أردى ماجلان قتيلا و رفض تسليم جثته للغزاة المتقهقرين. أما في عام 1497 فقد قرر المستكشف البرتغالي فاسكو دا غاما "الذي لم يكن سوى سفاح دموي"، اكتشاف طريق يؤدي إلى الهند دون المرور بطرق التجارة المعتادة التي تربط أوروبا بشبه القارة الهندية، والتي كانت تقع ضمن نطاق الأراضي التي يسيطر عليها العرب، وفي ذلك العام بدأ رحلته في محاولة للالتفاف حول رأس الرجاء الصالح وتجنب الأراضي العربية، واكتشاف طريق جديد يوصله للهند وهو الطريق الذي كان معروفاً لدى البحارة العرب، وفي هذا السياق فقد ذكر المؤرخ "النُّهْرُوالي" أن البحّار العربي المعروف أحمد بن ماجد هو من ساعد دا غاما في اكتشاف هذا الطريق وهو الذي دل البرتغاليين عليه، إلا أن تلك الرواية التاريخية لم تجد ما يؤيدها ويسندها، وقد ثبت خطؤها تاريخيا، ولم يأتِ على ذكرها أي من المؤرخين البرتغاليين. خلال رحلة فاسكو دا غاما، حطت به الرحال في أول محطة أفريقية على الطريق الجديد، وكانت تلك المحطة هي "الموزمبيق"، وعندما فشل دا غاما في التقرب لأهالي تلك المنطقة وأثار في نفوسهم الشك حول حسن نواياه، قام بقصفهم بالمدفعية انتقاماً منهم وهو يهم بالرحيل، مخلفا وراءه كماً من الدمار والقتل والتشريد، مطلقاً بذلك شرارة الخراب والتدمير والسلب والنهب التي مارسها البرتغاليون بعد ذلك لسنوات في أفريقيا والخليج العربي وكل المناطق التي وطؤوها، فبعد تلك الحادثة ولإدراك دا غاما أنه نجح في اكتشاف الطريق المؤدية إلى الهند أطلق مقولته الشهيرة "الآن طوقنا المسلمين، ولم يبقَ إلا أن نشد الخيط"، واستمرت بعد ذلك الحملات البرتغالية في نشر الذعر والرعب والتخريب على طول الساحل الأفريقي وصولا إلى الخليج العربي، فقد قام أثناء رحلته الإجرامية تلك بهدم ثلاثمائة مسجد بمجرد دخوله لمدن المسلمين في أفريقيا، كما قام في حادثة شهيرة بإغراق سفينة للحجاج في بحر عمان كان على متنها مائة شخص، كما قام في حادثة أخرى بحرق مجموعة من السفن المحملة بالبضائع من الهند، وأمام تلك الأحداث المأساوية من النهب والسلب على طول السواحل والتي سجل التاريخ كماً كبيراً منها، يمكننا تصور أن ما لم يسجله التاريخ من المآسي يفوق ما ذكر بكثير، وخلال رحلة أخرى قام دا غاما بإضرام النار في سفينة كانت عائدة من الحج تحمل على متنها 380 راكباً، وتركها لتشتعل في عرض البحر، ويذكر المؤرخون أن السفينة استغرقت أربعة أيام لتحترق بالكامل وتغرق بعد ذلك بمن فيها. خلال فترة احتلال البرتغاليين لمنطقة الخليج العربي التي استمرت لما يزيد عن مائة عام، وجد البرتغاليون أنفسهم أمام رفض شعبي لوجودهم، نظراً لتاريخهم الدموي وإفسادهم للتجارة والملاحة في المنطقة، وقد وقعت مواجهات عديدة مع المحتل، إلا أن أروع الملاحم التي سطرها التاريخ، هي المقاومة الباسلة التي قادها البطل العربي مقرن بن زامل الجبري، آخر حكام الإمارة الجبرية، فقد رفض مقرن بن زامل دفع الجزية للمحتل، مما حدا بالأخير لإعلان الحرب عليه، وواجه مقرن بن زامل جيوش المحتل في ملحمة بطولية سطرها مؤرخو البرتغال أنفسهم، وتحدثوا عن شجاعته واستبساله في المقاومة، إلى أن استشهد في تلك المعركة في عام 1521، بعد أن دافع عن أرضه ورفض الانصياع لإرادة المحتل، وقد بلغت درجة الحقد على القائد مقرن بن زامل إلى قطع رأسه وحمله إلى البرتغال، وقد قام القائد البرتغالي أنطونيو كوريا بتخليد هذه الذكرى الدموية برسم رأس الأمير مقرن وهو ينزف على درع أسرته وهو الرسم الذي لايزال موجودا حتى يومنا هذا. تعطينا تلك الومضات من التاريخ عدة دلالات، منها أن نهضة أوروبا وانفتاحها على العالم وتطورها التقني والصناعي، لم يكن أمرا إيجابيا بالنسبة لغيرهم على الدوام، فقد تجرعت مناطق عديدة وبعيدة الأمرين نتيجة الحملات الاستكشافية والتجارية الأوروبية، وتعرضت أراضي العالم الجديد بحسب تعريفها في ذلك الوقت لإبادة وتدمير وتشريد، كما صاحب تلك الحملات حروب وويلات وسفك للدماء واستعباد لكل الشعوب التي كانت تسكن الأراضي التي وطئتها قدم المستعمر، هذا فضلا عن حملات التبشير ونشر الدين المسيحي، وإقناع الشعوب المستضعفة وبالقوة أن الرب يحبهم ويريد خلاصهم. من جهة أخرى تكشف لنا تلك اللمحات عن النظرة المركزية التي يحملها الأوروبي في قرارة نفسه، متصورا أنه سيد العالم بلا منازع، مثبتاً ذلك بالقوة الجبرية كما يتبين من أحداث التاريخ محافظاً على تطبيق تلك الرؤية إلى يومنا هذا عبر القوة الناعمة والقوة الفعلية إذا تطلب الأمر، ومن ناحية أخرى تبين لنا تلك الومضات أننا في كثير من الأحيان، نقرأ التاريخ وفق نظرة مدونيه دون تمحيص، فكثير من المستكشفين والرحالة والأبطال القوميين بالنسبة لشعوبهم، ليسوا كذلك بالنسبة لنا فماهم في حقيقة الأمر سوى سفاحين ومحتلين ومجرمين أساؤوا للشعوب أيما إساءة، وللأسف نجد كتبنا تزخر بذكرهم وفق الرواية الغربية وتمجد إنجازاتهم، في الوقت الذي لا تأتي فيه على ذكر أبطالنا التاريخيين، ولا نجد لهم سوى نذرا يسيرا في الذاكرة التاريخية، ولم يدون تاريخنا بطولاتهم وإنجازاتهم، ونحن هنا لسنا بصدد استرجاع الآلام وإذكاء الأحقاد التاريخية، فالتاريخ يبقى تاريخاً، إلا أن الأجدر بنا إعادة الاعتبار لكثير من الشخصيات التاريخية العربية التي طُمست وطواها النسيان، وإجراء الأبحاث حول تلك الشخصيات وتضمينها المناهج الدراسية، وإعادة كتابة التاريخ بشكل موضوعي وصياغة الأحداث وإيضاح الحقائق وفق وجهة نظرنا وعدم الاكتفاء بما دونه المنتصر، فما يدونه المنتصر ليس صحيحاً دائماً.