12 سبتمبر 2025
تسجيلجرت المعركة السياسية والجماهيرية في الاستفتاء المصري، بين نعم لإقراره، ولا المتشددة في رفضه، وظهرت النتائج لتقول إن الشعب انتصر لنعم ورفض لا.غير أن التصويت "بنعم" حمل معنى من معاني كلمة "لا" وإن جاء مختلفا عما استهدفه من سعي لعدم إقرار الدستور. كلمة "نعم" حملت في طياتها رفضا لاستمرار حالة الفوضى، وكان معناها الحقيقي "لا للفوضى" وأن الثورة المصرية لا يمكن أن تعود للخلف، بل يجب أن تتحرك للأمام على صعيد بناء المؤسسات والدخول في جدول أعمال تنفيذ مطالب الثورة وتجسيد نتائجها في حياة المصريين عمليا.لقد صوت المصريون "بنعم"،دون أن يقتصر المعنى على تحقيق الاستقرار على ما هو قائم،وإنما المعنى أن نتحرك خطوة لإكمال ما بقي غائبا من سلطات الدولة والإسراع في إجراءات انتخاب مجلس نواب جديد –الشعب سابقا-والقفز في خطوات نقل ما ورد في الدستور من معان عامة إلى حقائق وحقوق بشأن العدل الاجتماعي وإعادة توزيع الدخل الوطني على أسس جديدة وإنفاذ الرعاية الصحية وتحقيق التنمية وإصدار القوانين التي تحقق حرية إصدار الصحف وتأسيس الأحزاب بالإخطار..الخ. التصويت بنعم حمل معنى "لا" أخرى موجهة للخارج. فخطورة أعمال الفوضى والحرق والتخريب والقتل التي جرت خلال مأساة الإعلان الدستوري، لم تتوقف عند حدود تهديد أمن البلاد واستقراره وقطع الطريق على تمتع الدولة المصرية بمشروعية كاملة، ولكن امتدت تأثيراتها إلى مواقف الخارج، إذ اعتبرت بعض الدول والمؤسسات أن البلاد ذاهبة إلى طريق مسدود، فصدرت قرارات بوقف إلغاء ديون ألمانية على مصر،وتأخير النظر في إسقاط ديون أمريكية، كما امتد تأثير الفوضى الداخلية ليلقي بظلاله على ملف استعادة أموال مبارك من سويسرا واستعادة رجل الأعمال المصري الهارب إلى إسبانيا حسين سالم. نعم للدستور ترسل إشارة للخارج بأنه تعجل في قراءة الوضع في مصر، ولتقول إن الشعب لن يسمح للفوضى في الداخل أن تحول الدولة المصرية من دولة قوية إلى دولة فاشلة، بما يدفع الخارج إلى التملص من وعوده في إسقاط الديون أو في وقف أو تعطيل إجراءات إعادة الأموال المنهوبة إلى مصر. وتصويت المصريين بنعم للدستور،هو إعلان بموقف وقرار شعبي بالتحول من حالة التفرغ للتظاهر والتخندق إلى معسكرات متناحرة باسم استكمال الثورة،وإلقاء بالكرة في ملعب القيادة والنخب،وتأكيد على انتظار الشعب تحقيق مطالب الثورة،التي طال الوقت في انتظارها بسبب صراعات ومشاكسات النخب مع بعضها البعض. وهذا التصويت صار يطرح أسئلة متكاثرة حول وعي النخب وعلامات استفهام حول دورها.في الأسئلة الشعبية للنخبة،يسأل الناس: متى عودة المثقفين للشعور بأحوال المواطنين،ومتى يميز هؤلاء بين قضايا تخصهم ونفوذهم ومصالحهم وقضايا حالية تتعلق بقوت الناس اليومي في ظل استمرار الاضطراب الاقتصادي وتصاعد التوتر الاجتماعي بسبب تنامي معدلات الفقر والعوز وشدة الحاجة. أما علامات الاستفهام حول مدى إدراك النخبة ووعيها،فهو ناتج عن سلوكها الذي أدخل البلاد في دورة جهنمية،نصفها الأول يتعلق بإحباط التعافي السياسي وتعميق الاضطراب الاقتصادي والمؤسسي بسبب الصراعات التي يجري تسعيرها بين الناس،ونصفها الثاني يتعلق بنتائج تلك الحالة واستجلابها –أو إتاحتها الفرص -لردود فعل سياسية واقتصادية من الخارج، تعلن عدم المساندة وتوقف تطوير العلاقات الاقتصادية،ليصبح الاضطراب في الداخل جزء من صناعة الحصار من الخارج. الشعب إذن كان أكثر إدراكا ووعيا بمخاطر عدم إقرار الدستور،إذ لا تتحمل البلاد استمرار حالة الفراغ التشريعي واستمرار التوتر السياسي الحاد،وهو أصدر قراره بالسير للأمام،بما يتطلب من النخبة أن تغير من سلوكها السياسي الصراعي،وأن تشعر بمسؤوليتها تجاه الشعب والمجتمع والدولة.وفي ذلك يبدو الحوار الوطني هو بوابة الخروج من تلك الدورة الجهنمية،شرط أن يتحول من حوار بين المعارضة والرئيس إلى حوار بين مختلف القوى والتيارات الفكرية والسياسية في المجتمع.فالحوار بين حكم ومعارضة هو حوار يجري في الأغلب حول أنصبة الحكم،أما الحوار بين القوى والتيارات في المجتمع فهو يجري حول ثوابت المصالح القومية العليا وكيفية مواجهة المخاطر وكيفية صناعة المستقبل.