11 سبتمبر 2025

تسجيل

جيش الخونة

27 سبتمبر 2016

خرج الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند الأحد، ليقدم اعترافا بمسؤولية بلاده في التخلي عن المرتزقة الجزائريين الذين قاتلوا إلى جانب قوات الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهم ما يطلق عليهم في فرنسا اسم "الحركيون"، وجاء ذلك في مراسم رسمية مخصصة لتكريم "حركيي الجزائر" في العاصمة باريس، حيث أقرّ أولاند بمسؤوليات الحكومات الفرنسية في التخلي عن الحركيين الجزائريين الذين قاتلوا مع الجيش الفرنسي أثناء حرب الجزائر والتخلي عنهم، وهنا ينتهي الخبر. الاعتراف الرئاسي لا يدين فرنسا الاستعمارية أو فرنسا الحديثة بقدر ما يدين الخونة الذين تلوثت أيديهم بدماء إخوانهم من أبناء ترابهم ودمهم وجلدتهم ودينهم في الجزائر، ويكشف كذب وخيانة السلطة المحتلة أي كانت، ذلك أن الزمن مهما تغير وتغيرت الظروف السياسية والقانونية في العالم، لابد من عودة لنهج الاستعمار من جديد، ولا استعمار أو احتلال أو غزو عسكري أو ثقافي أو اقتصادي إلا ويرافقه جيش من الخونة يتشكلون حسب الظروف الآنية، ولقد رأينا منهم الكثير في خلال العشرين سنة الماضية على الأقل.لهذا لم نسمع للأسف عن خونة وقفوا مع المحتل والغازي ضد بلادهم كما شهده العالم العربي في القرنين الماضيين، ولهذا يعود "ورثة الاستعمار" من المتحضرين الغربيين اليوم إلى نبش قبور فضائح الرعيل الخائن في البلاد العربية، ولو قُدر للأرشيف الاستخباري والسياسي الأوروبي أن يتدفق إلى العلن لرأينا كم كانت بلادنا التي كانت وطنا واحدا غير مقيد الحدود، مرتعا للعملاء الجواسيس لحساب الأعداء والطامعين، وهذا مرده حسب اعتقادي إلى انعدام الإيمان بالانتماء للوطن والكراهية المتغلغلة في نفوس الكثير من أبناء جلدتنا الذين أغرتهم الحياة ونسوا أن هناك يوما للحساب لابد منه أكان في الدنيا أو الآخرة.إن ما تحدث عنه الرئيس الفرنسي هو حقبة الاستعمار البشع للحضارة الفرنسية الدموية في السيطرة على العالم العربي، ابتداء من الجزائر عام 1830 بعدما ضعفت الجزائر آنذاك عقب فقدانها لأسطولها البحري الضخم، الذي ساعدت به الدولة العثمانية التي تقع تحت حكمها، ومن اعتراف أولاند بمسؤولية الحكومات الفرنسية عن تخليها عنهم، هم جيش ما يسمى "الزواف" الذي تم تشكيله من قبل الفرنسيين بعد شهر من سقوط العاصمة الجزائر بيد القوات الفرنسية، وكان ذلك أول "جيش خونة" يبلغ تعداده 15 ألف جندي ينحدرون من قبيلة واحدة وينتشرون في مناطق تيزي أوزو.لقد كانت المهمة الرئيسة لجيش الخونة المرتزقة التي هيكلها الاحتلال الفرنسي إلى فيلقين كبيرين تتمثل في هدفين، الأول المساعدة في احتلال بقية الأراضي الجزائرية وتطويع الثوار، والثاني طرد الحكم العثماني لاستتباب الجزائر للسلطة الفرنسية، وهذا ما جرى حسب المخطط، فبقيت الجزائر تقاوم على مدى 132 عاما، وبقي جيش المرتزقة يقاتل إلى جانب السلطة، وبقي أولاد الخونة يتوالدون، والمرتزقة يتكاثرون، إلى أن انتهى الاحتلال الفرنسي الذي قضى شهوته ومصالحه من الجزائر وعادت قواته إلى فرنسا، وترك أولئك الخونة كالكلاب الضالة ليلاقوا مصيرهم الذي يستحقون.صرح الأمير الفرنسي "نيكولا بيبسكو" عام 1864 بالقول إن جيش المرتزقة، أي الحركيين، هم أفضل من ساعدنا في أهدافنا تجاه الجزائر، لقد كانوا الداعمين لتأثيرنا السياسي والأخلاقي والتجاري، فضلا عن العسكري، فهم جنود أوفياء لنا، ويضيف، لدينا تحالف فرنسي قبائلي جيد، وتوءمة فكرية ورضا تام عن تغيير المنهج والتفكير خصوصا فيما يتعلق بقانون الميراث أولا، وهو ما يتعلق بحق المرأة حسب المفهوم الفرنسي المضاد لشرع الله.إن القارئ في التاريخ الجزائري إبان الاحتلال الفرنسي يدرك كم كانت مهمة الوطنيين صعبة لدرجة المستحيل في تحقيق نصرهم على القوة الغاشمة، ليس للخلل البائن في ميزان القوى، ولكن للدور القذر الذي لعبه الخونة والمرتزقة من أبناء الجزائر الذين باعوا أنفسهم للشيطان، وأصبحوا الأكثر وطأة من المحتل نفسه، فحصار القوات الفرنسية وجيش الخونة "الحركيين" لمناطق القبائل من عام 1864 حتى 1869 نتج عنه هلاك 800 ألف مواطن جزائري جوعا ويشكلون حسب المراجع الفرنسية 43 % من سكان تلك المناطق.إن أربع سنوات من الحصار المشترك الفرنسي وجيش الخونة في الجزائر، تذكرنا بما يحدث اليوم في سوريا من حصار ودمار، ويعيد التذكير بسياسة "الأرض المحروقة" التي انتهجتها سلطات الاحتلال الفرنسي في الجزائر، والاعتراف بالمسؤولية الرسمية لفرنسا في التخلي عن مرتزقتها بالجزائر، سيراه العالم بعد فترة من الزمن على منصة رئاسة أخرى لإحدى الدول الكبرى كروسيا، حينما ستعتذر لتخليها عن جيش الخونة في سوريا بعد انتهاء الحرب هناك ودمار البلاد والعباد، تماما كما تخلت القوات الأمريكية عن مرتزقتها في العراق وأفغانستان، وكما تخلت إسرائيل المحتلة عن جيش لحد في جنوب لبنان.الخونة والعملاء والمرتزقة ليسوا بأكثر قيمة من ورق المراحيض، مع الاعتذار للقارئ، يلقى في النفايات بعد مسح القذارة به، ولهذا يجب أن يكون الاعتراف الرئاسي الفرنسي صفعة قوية لكل الشعوب العربية وقياداتها كي تستيقظ من جديد وتوحد صفوفها لإعادة بناء منظومة حاكمية وشعبية مبنية على أسس العدل ومحبة الأوطان وعدم الارتهان للمؤسسات الدولية والثقة بالروح العربية الإسلامية التي طالما وحدت الأمة، والأمة الممزقة اليوم أحوج ما تكون بإعادة برمجة مستقبلها بالوحدة والتخلي الفوري عن الخلافات وثقافة الكراهية، فذلك ما يحمي مستقبل الأجيال القادمة التي ستقرأ أسرار حاضرنا وتحكم علينا جميعا.