10 سبتمبر 2025

تسجيل

ومن المرض النفسي .. ما له سبب مهني 2-2

27 يونيو 2024

..... نواصل الحديث حول كتاب «التحرش النفسي في الوسط المهني» لمؤلفه/ د. حميد حشلافي تكشف بعض الدراسات ذات الصلة، عن العلاقة التي قد تربط بين نمط الشخصية وفرص نشوب الصراع، بناءً على الاستعداد السلوكي العدواني للبعض، والميل نحو مواجهة العدوان لدى البعض الآخر! فعن (نمط شخصية المتحرش) تُجمع تلك الدراسات على تصنيفه كشخص «نرجسي منحرف وشاذ»، وكمصّاص لطاقة الضحية من خلال حرصه على استنزافها وامتهان كرامتها، ناكر لأخطائه لا سيما تجاه ضحيته، شكّاك يميل إلى اتهام الآخرين دون دليل واضح، متزعزع غير ثابت في مواقفه، نرجسي مفرط في تبجيل ذاته، بغيض يفتقر لروح التضامن الاجتماعي ولا يتعاطف مع آلام الآخرين رغم فضوله نحو معرفة تفاصيل حياتهم، وهو من ناحية أخرى ماهر في تقمّص دور الضحية ما تطلب الموقف! أما (نمط شخصية الضحية)، فإن أهم ما يميزها بما تحمله من قيم هو «القدرة على مقاومة الانصياع للنرجسي الشاذ. يتجلى ذلك بوضوح في ردود أفعالها التي تتسم بالشفافية، ولا تتناقض بين ما تشعر به وطبيعة مواقفها اتجاه تعاملات الغير معها. فما ينطق به لسانها هو تعبير خالص من قلبها. الضحية تعبر من خلال رد فعلها بكل صراحة عن عدم تقبلها لعبارات التجريح والألفاظ البذيئة والمنحطة، والرفض لكل تصرف فيه عدم تقدير واحترام. إنه تصرف لا نفاق فيه». وفي الآثار الناجمة عن ظاهرة التحرش النفسي، يتم تشخيص الأعراض النفسية المرضية ضمن أربع مجموعات رئيسية، ففي الأولى تظهر الأعراض على هيئة «اضطرابات الذاكرة، صعوبات في التركيز، العزلة والانطواء، قلة المبادرة، سلوكيات عدوانية، شعور بعدم الأمان» وقد بذل ضحيتها جهداً في البحث عن أسباب ما آل إليه وضعه دون جدوى. أما في الثانية التي تظهر في صفة اضطرابات نفسية وجسمية، فتشمل «أحلاما مزعجة، أوجاع البطن، نقص الشهية، عقدة بالحلق، بكاء شديدا». وبينما تظهر الثالثة نتيجة تعرّض الجسد إلى نوبات جزع فجائية، على هيئة «إحساس بثقل على الصدر، تعرق شديد، اضطرابات في نبضات القلب، صعوبة في التنفس»، تظهر الرابعة جرّاء التعرض للضغط المستمر، وهي تشمل «آلام في الظهر والرقبة، قلة التركيز والاهتمام، الشعور بالدوران والرجفة». والمؤلف وهو يؤكد على أن الآثار السلبية التي تصيب المتحرش به لا تعفي المتحرش من تبعاتها الجسدية والنفسية باعتباره المحرّك لهذه «اللعبة الحقيرة والمدمّرة»، يحرص على تأكيد أهمية التكفّل بظاهرة التحرش النفسي على مستوى داخلي بالمؤسسة وعلى مستوى أرفع خارجها، حيث تتطلب الأولى لفت نظر إدارة المؤسسة لممارسات تلك الظاهرة في دوائرها بما يدعمها من قرائن، إضافة إلى ما قد يرفعه طبيب العمل من تقارير طبية تعزو المعاناة النفسية للضحية إلى أسباب مهنية، في حين تتمثل الثانية في دور القضاء والهيئات الحكومية الرقابية وفي الاستعانة بالمجتمع المدني وتأثيره العام. وفي هذه الأخيرة، يستعين المؤلف بالمشرّع الفرنسي، والذي سنّ في قانون الحداثة الاجتماعية من المواد ما يتصدى لهذه الظاهرة ويحدّ من ممارساتها، باعتبارها شكلا من أشكال الجريمة، حيث منها ما ينص على أن: «لا أحد من المستخدمين عليه أن يكون هدفاً لمضايقات متكررة للتحرش المعنوي من أجل أو بغاية الاخلال بمناخ أو ظروف العمل أو بإمكانه سلبه حقوقه وإهانة كرامته، إلحاق الضرر بصحته الجسمية أو الذهنية أو إعاقة مساره المهني المستقبلي». وبينما تتعدد المفاهيم والمصطلحات والعينات الدراسية التي تناولتها المراجع الأوروبية والأمريكية للظاهرة، لا تصّنفها نظيرتها العربية ضمن الأولويات، التجاهل الذي يُعزى إلى قلة أو انعدام البيانات والمعلومات والإحصائيات التي تحدد حجم الظاهرة، وحقيقة تأثيرها المترتب على المستوى الفردي للعامل، والإنتاجي للمؤسسة، والاجتماعي ككل. يحرص المؤلف في نهاية كتابه على تسليط الضوء نحو الجانبين الديني والأخلاقي، والتذكير بما جاءت به أحكام الشريعة الإسلامية من مبادئ تضمن المساواة والاحترام والتكافل وتنبذ كافة أشكال التمييز وتحارب الظلم وتكفل حق الأجير سلفاً، وقد شفّع حديثه بعدد من الآيات القرآنية والأحاديث المروية، من أجلّها: «بحسب امرئ أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه». وهو في هذا لا يغفل عن المرأة العاملة التي تمثّل نموذج ضحية مثاليا لظاهرة التحرش النفسي في الوسط المهني متضمنة التحرش الجنسي، مشدداً من جديد على المكانة الرفيعة التي خصّها بها التشريع الإسلامي منذ تأسيس الدولة المدنية، وتحريم ما كان يمارس ضدها من ممارسات جاهلية قبل الإسلام. وبينما يبدأ د. حميد حشلافي كتابه بإهداء خصّ به «أصحاب العقول النيّرة»، أولئك الذين أخلصوا أعمالهم وهذّبوا سلوكهم وتحمّلوا ما عليهم من مسئوليات بوفاء، فاستطاعوا الوصول إلى قلوب الأفراد المفعمة لهم بالعرفان والامتنان.. فهو يختمه بتوجيه رسالة إنسانية تحتضن الروابط التي من شأنها أن تجمع البشرية تحت ظل حياة ذات نسق واحد من الأسس والمبادئ والمعاملات.