27 أكتوبر 2025

تسجيل

الفراغ نعمة مهدرة!

27 يونيو 2018

هذه مقالة كتبت في وقت الفراغ شكراً على نعمة الفراغ ، ولولا أن يقدس الناس الفراغ لقلت كما قال الأستاذ العقاد: إن الحضارة من مبدئها إلى حاضرها مدينة لأوقات الفراغ. إن التبشير بأهمية زيادة أوقات الفراغ في حضارتنا المعاصرة لا تقل عن أهمية إيماننا بضرورة العمل. فالعمل الشاق لساعات طويلة وباستمرار مضرٌ بأخلاق العمال ومفسدٌ لضمائر الشعوب، وحاجة الإنسان إلى أوقات فراغ أصيلة كحاجته لوقت العمل، فهذه لعمارة الحياة وتلك لعمارة النفس، والزيادة في أوقات العمل تعني زيادة في الإنتاج عن مقدار الاحتياج وفائض الإنتاج يخلق فائض قوة يغري الدول المنتجة  بفرض فائضها على الدول المستهلكة مما يؤدي لعادة الاستهلاك عند هذه الشعوب المستعبدة ضماناً لاستمرار خطوط الانتاج إرضاء للمنتجين  وهذا سلوك يحط من قيمة المجتمعات التي لا تقف عند حدود احتياجها فتتمادى في إشباع الرغبات وهي طبيعة بهيمية لا تليق بإنسان، وللمفارقة العجيبة فإن زيادة أوقات العمل وما يترتب عليه من زيادة في الإنتاج ـ يعتقد البعض أنه فضيلة تحقق الرفاهية ـ هي ذاتها كارثة في انتظار التحقق! كيف ذلك ؟ أمهلني لحظات ! فزيادة الإنتاج يتبعه زيادة  نهمٍ واحتياج،  ومن زيادة استهلاك يتبعه زيادة إهلاكِ للموارد الطبيعية ففضلاً عن أن هذا سلوك أناني أرعن من جيل حاضر لا يرعى حق أجيال قادمة  في تلك الموارد أقول فضلاً عن ذلك فإن هذا سيخلق طابوراً من العاطلين يدفع ثمنه شباب مظلوم فضلاً عن تسريح أعدادٍ هائلة من وظائفهم بسبب اختلال الموارد البيئية فيختل الميزان بين الإنتاج والاحتياج وهو ما يؤدي إلى نفس النتيجة، خلق أوقات فراغ لكن بالطريقة الفجة على عكس ما يرمي إليه العقلاء بطريقة رشيدة تحفظ للعمل قيمته وللموظفين كرامتهم وللإنسانية حقوقها وللبيئة مواردها من النضوب وللأجيال القادمة حظهم من الحياة، وهي خطة يربح فيها الجميع دون أن يخسر أحد أما الخطة القائمة فالمكاسب فيها مؤقتة ومحسوبة لقلة ساحقة على حساب أكثرية مسحوقة، فالاستقرار على ذلك عرض زائل وسقوط الحضارة القائمة حتمي لا مفر منه. سيعترض البعض على زيادة وقت الفراغ بقوله: الناس تمل والجرائم تزيد في أوقات الفراغ وحالات الطلاق أكثر ما تكون في أوقات العطل ناهيك عن شتى صور الانحراف وهذا اعتراض لا يخيف فهو أقرب للاعتراف منه إلى الاعتراض  إنه اعتراف واضح بفشل هذه الحضارة، بفشل تعليم لم يطلق طاقات المتعلمين ويحرر وعيهم، اعتراف بفشل تربية لا تنطلق من أن الحرية الحقة هي الشعور بالمسئولية التامة، تربية لا تمنح الأبناء حق التعبير الحر عن ضمائرهم ولو خالف ذلك عادة الآباء، اعتراف بفشل مؤسسات لم تضع الطاقات في موضعها اللائق لقد كان أحرى بهم النعي على آباءٍ هم في حكم القتلة لأبنائهم، أحرى أن يعترضوا على تعليم لم يحَضِّرْ أبناءنا لاستحقاقات المستقبل وإدارة أوقات الفراغ بتعليمهم كيف تُعرف النفس وتُدار الذات، وإذا أردت أن تعرف حاضر أمة وتستشرف مستقبلها فراقبها في أوقات الفراغ فإنها أدل الأوقات على حياة الأمم، فالملل وزيادة حالات الطلاق وكثرة الجرائم وغيرها كلها عرض أما حقيقة المرض ففي إنسانية لم تقدر نفسها وهي عند خالقها ذو قدر عظيم، فليس العتب على الفراغ بل على أمة تهدر نعمة الفراغ.