13 سبتمبر 2025
تسجيللم يحدث منذ نشأة الدولة الحديثة في منطقة الخليج (بداية استقلال هذه الدول في أوائل السبعينيات، وفك معاهدات الانتداب والحماية مع بريطانيا)، أن تبادلت دول الخليج مع بعضها هذا النوع من العبارات والمشاهد، اعتباراً من شهر يونيو الماضي؛ بعد إعلان كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر ، وفرض حصار بري وجوي عليها. كما لم يحدث أن تأثَّر المجتمع الخليجي بنتائج هذا الحصار في الدول الأربع، حيث تقطَّعت الأرحام، وتشتت العائلات، وتعثرت المصالح واستُبيحث الأرزاق، وانتشر شعور عارم بالكراهية والغضب بين مواطني الدول الأربع.لن نتعرض إلى الأسباب السياسية والنتائج الاقتصادية والاجتماعية التي لحقت بالمواطنين في هذه الدول، ولكن تركيزنا هنا حول الخطاب الإعلامي؛ الذي برز هو الآخر – في صيغة جديدة ومؤلمة - لأول مرة في سماء الخليج العربي.فلقد كالت الصحف في الدول الثلاث الاتهامات لدولة قطر بصورة مؤسفة، ولكأنهم قطعوا قطر جغرافياً، وأرسلوها إلى ما وراء نيوزيلندا أو المريخ!؟ ومحوا تاريخها الحضاري من سجل الأمم!كما كانت الفضائيات مُجهزة ومُعدة سلفاً لتوجيه حملة إعلامية غير مسبوقة ضد دولة قطر، في مخالفة لكل القيم والأعراف الإعلامية، والتي أهمها الصدق والدقة في عرض الأخبار والتعليقات.وظهرت في الصحف كلماتٌ مؤلمة ما كان لها أن تنطلق بهذه الصورة التي مسحت الجوار والقربى والتاريخ المشترك، في مخالفة واضحة لميثاق الشرف الإعلامي الذي وضعته الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية كقانون استرشادي ومرجعية للعمل الإعلامي. وفي مخالفة أيضاً للنظام الأساسي لمجلس التعاون. وكان مما ندى له الجبين، ظهور عبارات مثل:النظام القطري، ليس لدينا نوايا حسنة من النظام القطري، الهروب إلى الأمام، الادعاءات الباطلة، الوزير الكذاب، الغباء السياسي الذي يمارسه الوزير، صفعة لوجه الوزير، الإعلام المرتزق في الخليج، حليف ذو وجهين، بعيدة عن شواربهم، خنجز طعننا من الظهر، دولة خليجية تلعب دوراً تخريبياً.وغير ذلك من العبارات التي تجرح الذوق وتؤجج المشاعر، ولكأننا في الحارات الخلفية لمدن الصفيح في إحدى البلدان العربية المتخلفة.لن أتحدث عما صدر عن إعلام بعض الدول العربية صحفياً وفضائياً، لأن ذلك مبحث آخر، وهو صورة أكثر سواداً مما نحن عليه في الخليج.إن سلوك الإعلام إثر قرار الدول الثلاث بقطع علاقاتها مع دولة قطر وفرض الحصار عليها، يحتاج إلى دراسة أعمق لمعرفة السلوك الذي انتهجه الصحفيون في منطقة الخليج، وما قامت به بعض الفضائيات من زرع الفتن والأحقاد بين شعوب الخليج. بل إن ترديد العقوبات التي جاءت ضمن قوانين صدرت في بعض هذه الدول ضد أي مواطن يُبدي ولو تعاطفاً أو ميلاً أو محاباة تجاه دولة قطر، تصل جزاءاتُها إلى السجن من 3-5 سنوات وغرامة مالية لا تقل عن 500 ألف درهم ؛ يثبت حالة "تفريغ" المواطن من عقله.لن أتحدث عن العبارات التي وردت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فبعضها تجاوز القيم الإنسانية وليس الخليجية فحسب، وأوغل بعض المغردين في سباق حميم لإثبات "الوطنية" إلى حد "الشوفينية"، التي لا يُقرها أي عقل! وهذا دليل واضح على عدم اكتمال الشخصية المُواطَنة، التي تؤمن بالرأي والرأي الآخر، وعدم جواز استمرار الحكومات "التفكير" نيابة عن المواطن. وأن من حق المواطن اختيار الموقف الذي يريده، خصوصاً في قضية لها أكثر من وجه، وما زالت محل خلاف حول إثباتها أو نفيها!؟خطاب الكراهية في الإعلام الخليجي والذي جاء بعد حادثة قطع العلاقات مع دولة قطر، لم يصغهُ المواطنون، بل تدخلت فيه أياد أجنبية – مدفوع لها – لا تريد الخير لهذه المنطقة وتتأمل تحويلها إلى صنعاء أو حلب أو الموصل أو مصراتة! وجعلها مشاعة لحاملي القنابل والرشاشات وزارعي الموت، وتحدث فيها حالات لجوء قسري ومصادرة للحقوق والأرزاق ونشر ثقافة الخوف والترصد! وهذا تم التخطيط له لإذلال أهل الخليج وحرمانهم من نعمة الأمن والثروة، لكن أهالينا لم ينتبهوا إلى هذه الحقيقة.إن الخطاب الإعلامي الذي شوّهَ سماء الخليج منذ الخامس من يونيو الماضي جاء ليزيد من قسوة وظلم الإجراءات السياسية التي أضرت بشعوب المنطقة، وليُعلن مرحلة غير مسبوقة في القطيعة والجفوة بين أبناء المنطقة، الذي لا يودّ عقلاؤهم الوصول إلى هذا الحد من التنافر والتباعد وقطع الصلات بين العائلات المنتشرة في دول المنطقة.هذا الخطاب – في ظل "الهوشة" السياسية والأنفة الشخصية والتسرع في القرار- أعمى كثيرين عن رؤية حقيقة المشهد على مستوى الشعوب!. بل أوصل رسالة واضحة للشعوب بأنهم مجرد "قطعان" يسوقها هذا الإعلام لما يريده "أحدهم"، ويلغي بذلك ذاكرة الشعوب، ويصادر حقهم في اتخاذ القرار المناسب.ولقد ظهرت خلال الحملات المتبادلة في المنطقة مصطلحات وعبارات لم نعهدها من قبل، إلا في الدول المحتربة الممزقة طائفياً وإثنياً ودينياً ومصالحياً. وتم تزوير و(مونتاج) أحاديث هاتفية أخرجتها عن مضامينها الأساسية وقُدمت بصورة مبتسرة لاتهام دولة قطر بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الشقيقة، وكان الموضوع الأساسي مخالفاً جداً لما جاء في ذاك التزوير، وهو التدخل لرأب الصدع وإخماد الفتنة في الظرف الذي مرّت به دول الخليج.كما ظهرت بيانات فيها الكثير من المغالطات، وزُجَّ بأسماء من توفاهم الله في قائمة المتهمين بالإرهاب، وتم قلب الحقائق وتزويرها بزجّ اسم قائد الكتيبة القطرية التي كانت تدافع عن حدود المملكة العربية السعودية في الجنوب على أنه ضمن تلك القائمة!؟ أليس هذا كذباً وبهتاناً؟ ناهيك عن اتهام مؤسسات خيرية مُعترف بها من الأمم المتحدة، تعمل ضمن تعاون مع الهيئات الخيرية الدولية، لتضميد جراح الشعوب المنكوبة، على أنها تموّل الإرهاب. كما تم نبش التاريخ بصورة قميئة، خالفت الأعراف والقيم العربية الأصيلة، وتجاهلت عقل الإنسان في المنطقة.كما افتقد الخطاب الإعلامي خلال موجة الحصار على دولة قطر الدقةَ، لأن بعض الإعلاميين العرب لا يعرفون حقيقة تاريخ المنطقة وأحداثها وجغرافيتها، بل ولا يفرقون بين أسماء رموزها السياسيين.والدليل على ذلك قيام مذيعة عربية في إحدى القنوات بلفظ اسم ملك البحرين هكذا ( الملك حمد بن عيسى آل ثاني) !؟ وغير ذلك من المغالطات التي تنمُّ عن السرعة والتلفيق والتزوير. ويصبُّ في هذا الاتجاه بث لقطات من بلدان أخرى على أنها من دولة قطر، أو تصوير أجنحة الجمعيات والسوبر ماركتات على أنها خالية من المواد الغذائية وأن الشعب القطري يجوع!. وهذا يدخل ضمن (الحرب النفسية) التي لا تمت للحقيقة بصلة. بل إنها رصاصات ترتد على مُطلقيها، لأن الإباء والعزة والشيَم العربية لا تدفع العربي لأن يُجوّع أخية، أو يتلذذ بشقاء أخيه، وهذا يُذكِّرنا ببيت الشعر العربي الذي يصور حالة البخل: قومٌ إذا استنبحَ الأضيافُ كلبَهمُ قالوا لأمهم بولي على النارِإذ لا شرف ولا أمانة في التباهي بتجويع الأخ لأخيه، وهذه من السقطات الواضحة في الإعلام الخليجي.ومن السقطات التي لا تُغتفر تحويل برنامج عن حياة إنسان الخاصة وتجاربه الشخصية إلى برنامج سياسي للهجوم على دولة قطر، وخرج بذلك البرنامج عن رشاقته وموضوعيته ومضمونه الراقي الذي يمثل (مجموعة إنسان) إلى برنامج (مجموعة أحزان)!بوديّ لو قامت هيئة إعلامية بحثية بعمل دراسة تحليل مضمون للخطاب الإعلامي الخليجي خلال الحصار المفروض على دولة قطر، فحتماً ستخرج هذه الدراسة بمجموعة من النتائج – التي قد تؤلم – ولكنها ستكون درساً لإعلاميي الغد.