12 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); أقل ما يمكن وصف الجريمة التي اقترفها التوأم خالد وصالح العريني بقتل والدتهما، والتي هزت المجتمع السعودي من أقصاه لأقصاه؛ أنها فجيعة ونكبة ونقطة انعطاف حادة في مسيرة التطرف، غردتُ مباشرة كاتبا: "ما الذي يتعاطاه هؤلاء الدواعش، ليتحولوا إلى وحوش وحيوانات بلا رحمة؟!". تصورت للحظة، مشاعر تلك الأم الصالحة المغدورة، التي كلُمت بهذين الابنين الشقيين، وقتما استدرجاها وانهالا عليها طعنا بالساطور والسكاكين، وهي المرأة التي تنتمي لعائلة علم وفضل، فأبوها هو الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العريني الرئيس الأسبق لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة، فليت شعري ما الذي كانت تردده وهي بعمر الـ67 عاما، وترى فلذتي كبدها اللذين حملت بهما، يوجهان لها الطعنة تلو الأخرى، أتراها تذكرت أويقات مرضهما وهي ترعاهما ولم تنم حنانا بهما؟، أم تذكرت صباحات العيد وهي تلبسهما أزهي الثياب، وتطعمهما الحلوى بيديها؟، أم ليت شعري أكانت تنظر في أعينهما الباردة وتتذكر أمومتها الفياضة، وهي ترضعهما بكل سعادة، ترمق بحب أعين طفليها البريئة؟ ما الذي كان يجول في خاطرها المفجوع، والدم يثعب من كل جسمها، إثر طعنات ابنيها الوادعين اللذين تحولا لوحشين بلا قلب ولا ضمير ولا إنسانية؟! يقينا أنها الأم، التي أجزم أنها كانت تلهج بالدعاء مع كل طعنة تخترم جسدها الطاهر، وتدعو وقتها بالصلاح والهداية والمغفرة، ولا شيء غير تلك الأدعية، وهي تسلم الروح الطاهرة لبارئها، هكذا هي الأم على كل العصور.ألمح لي أحد الأصدقاء القضاة جوابا لسؤالي عن الحالة التي كان عليها الشقيان التوأم، بأن تاريخنا عرف أناسا مغيبي الوعي، وذكر لي طائفة "الحشاشين"، وعدت للمصادر التاريخية، أقرأ عن هذه الفرقة الإسماعيلية الباطنية التي أسسها الحسن بن الصباح، واتخذ من قلعة "آلموت" في فارس عاصمة له، ومركزًا لنشر دعوته، وهي الفرقة التي تميزت باحتراف القتل والاغتيال لأهداف سياسية وأيديولوجية متطرفة.قلعة "آلموت" منيعة جدا وصعبة الوصول، فهي ترتفع عن سطح البحر بـ6 آلاف قدم، ولا يمكن أن يصل أحد إلى هذه القلعة إلا عبر ممر ضيق متعرج شديد الانحدار، وأقام الحسن بن الصباح فيها المزارع والحدائق التي تخلب الألباب، في شكل درجات بعضها فوق بعض، وفي إحدى هذه الحدائق، قام بزراعة النباتات الجميلة والأزهار المتنوعة وأشجار الفواكه الشهية، وأجرى أنهارا صناعية صغيرة من اللبن والعسل والخمر والماء الزلال، تمثل الجنة لمريديه القتلة.يقول المؤرخون بأن الحسن بن الصباح وكبار معاونيه كانوا يحرصون على أخذ الصبية الصغار الغرّ، ليعلموهم مبادئ الإسماعيلية وتعاليمها، ثم بعد ذلك يعلمونهم فنون المكر والخداع والشعوذة، وكذلك فنون الاغتيال بالخنجر والسكين، وفنون القتل بالسم، وهم في أثناء مراحل التعليم هذه؛ يجعلونهم يتناولون نبات "القنب الهندي" المعروف بالحشيش ليدمنوه، ليصلوا لاحقا لمرحلة تعاطٍ كامل وإدمان، لا يستطيعون العيش وممارسة حياتهم الطبيعية إلا بتعاطي المخدر الذي أدمنوه، وإذا قطع عنهم يصبحون كالحيوانات الهائجة، وعلى استعداد لعمل أي شيء. معلمو فرقة الحشاشين كانوا يتحكمون بهؤلاء المدمنين عن طريق التحكم بكميات الحشيش المقدمة لهم، ومتى اشتدت حاجة هؤلاء إلى الحشيش، ودخلوا في مرحلة ما قبل جنون الحاجة للمخدر، قال لهم معلموهم: "ادعوا الحسن بن الصباح يعطيكم ما تريدون"، وبالفعل يقوم هؤلاء بدعوته والدعاء إليه، والتوسل والتضرع، فيعطيهم ما يريدون ويصبح بالنسبة لهم كالإله، يعبد من دون الله جل وعلا، وعلى استعداد للتضحية بحياتهم لأجله.ذكر المؤرخون ما كان يفعله هؤلاء الانتحاريون، وأسهبوا في وصف إجرامهم، وما ابتليت بهم الأمة، أيام الدولة السلجوقية، بل هددوا صلاح الدين الأيوبي ووصلوا له، وكادوا يقتلونه، وكان الحسن الصباح يبعثهم لقتل العلماء والسلاطين، ويسميهم بالفدائيين أو الفداوية، وذكر بعض أساليبهم في القتل الروائي أمين معلوف في رائعته الروائية الخالدة "سمرقند"، وأطلق المسلمون عليهم مسمى: "الحشاشين" نسبة لتعاطيهم الحشيش، وكانت هذه الكلمة في تلك الأيام، تثير الذعر والهلع في قلب أشجع الشجعان، لأن هؤلاء كانوا آلات قتل متحركة مسلوبة الإرادة عمياء الطاعة.الحافظ ابن كثير ذكرهم في تاريخه، وقال عن أهم أحداث عام 494?: "فيها عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنيّة، فقتل السلطان منهم خلقًا كثيرًا، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامَّة، كلّ من يقدرون عليه فلهم قتله وماله وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأوّل قلعة ملكوها في سنة 483?، وكان الذي ملكها الحسن الصبّاح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلَّم من الزنادقة الذين كانوا بها، ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، فكان لا يدعو إلا غبيَّا لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز (الحبة السوداء)، حتى يحترق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له شيئًا من أخبار أهل البيت ويكذب له من أقاويل الرافضة الضَلال، أنهم ظُلِمُوا ومُنعِوا حقَّهم، ثم يقول له: فإذا كانت الخوارج تقاتل مع بني أميّة لعليٍّ، فأنت أحقُّ أن تقاتل في نصرة إمامك عليٍّ بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه من هذا وأمثاله حتى يستجيب له، ويصير أطوع له من أبيه وأمِّه، ويظهر له أشياء كثيرة من المخرقة والنَّيرنجات والحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التفَّ عليه بشر كثير وجمُّ غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده ويتوعّده وينهاه عن بعثه الِفداويّة إلى العلماء" أ.هـما أشبه أولئك الحشاشين الانتحاريين -الذين يمتهنون القتل غيلة وغدرا- بالدواعش الصغار هؤلاء، فلو رصدنا أعمار من قام بالغدر بأقاربهم وقتل رجال الأمن من الدواعش، لألفيناهم في مرحلة اليفاعة والشباب، وهؤلاء يخدّرهم قيادات داعش الشرعية عبر "الإنترنت"، ويعدونهم بالجنة والحور العين، ويطالبونهم بقتل الأقرب لهم عياذا بـالله، فيصلون لمرحلة التخدير الكامل، ولو من دون تعاطٍ مباشر، فهم في مرحلة تغييب كامل للعقل والمشاعر الإنسانية.من المؤلم تقاذف النخب السعودية اليوم الاتهامات وهم على سفينة الوطن، وبدلا من الشعور بالخطر الداهم، يقوم البعض بسوق الاتهامات على العلماء والدعاة الذين لم يكلّوا ولم يتركوا مناسبة للتحذير من خطر التطرف، ليرد عليهم هؤلاء بأن استفزازهم عبر البرامج الهزلية السوقية، وقيام الإعلام بشيطنة الدعاة والرموز الشرعية أحد أهم الأسباب لظهور هؤلاء الدواعش الصغار الذين ترعرعوا في عصر الحرب على الإرهاب، وغلبة الإعلام على منبر المسجد وطاولة الدرس.رحم الله الشهيدة هيلة العريني، وكفانا رمي الاتهامات لبعضنا، فحشاشو العصر يتوالدون ويتناسلون، فيما النخب تتخاصم في فجور، والوطن يدفع الثمن.