10 سبتمبر 2025
تسجيلفي يوم ربيعي تلبدت السماء بالغيوم في عاصمة الضباب، جلست على أحد المقاعد الخشبية الممتدة على جوانب البحيرة الرائعة بحديقة الهايد بارك الشهيرة، أتأمل جمال المكان وأستشعر روعة برودته الخفيفة وجوه الغائم، والأشجار التي عادت تلبس لون الربيع الأخضر، فجعلت كل من حولها يستمتع بعودتها، بعد أن جعلها الخريف عارية من الأوراق، وتفنن بعده الشتاء وثلوجه في معاناتها. ومع وضوح وجود الناس الذين جذبهم هذا السحر للعودة للمشي والإنطلاق حول البحيرة، لفتت نظري السيدة الكبيرة في السن التي تستمتع بممارسة رياضة المشي السريع حول الماء في نشاط وخفة، وعندما مرت بمكان جلوسي بوجهها الذي تطل منه البشاشة، قدمت لها ابتسامة عريضة إعجابا مني على جهودها وخفتها ودعوة مني لتبادل كلمات التعارف معها، فجاءتني بسعادة مرحبة، وسألتني إلى أي دولة عربية أنتمي، ثم قالت في بداية حديثها بأنها بريطانية تحب العرب كثيرا، لأنها كانت من أوائل الذين عملوا بإذاعة (صوت العرب) بالقاهرة عند بداية افتتاحها في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وإنها أحبت ثقافة العرب وعاداتهم التي مازالت تذكرها وتحن إليها رغم السنوات الطويلة التي إنقضت منذ ذلك الحين. وقد شدني حديث هذه السيدة العجوز التي غزت وجهها تجاعيد كثيفة، واتضحت عليها بشدة علامات الزمن، وأدهشني نشاطها ومرحها، ورغم إني دعوتها أكثر من مرة بأن نعود للجلوس حتى لا تشعر بالتعب، إلا انها كانت ترفض مفضلة إستكمال بقية الحديث وهي واقفة مرددة: (لا عليك، فأنا بخير)، ثم قالت بفرح بأنها رغم إنها احتفلت مؤخرا بيوم ميلادها الثالث والثمانين إلا أنها ترى كل أوجه الحياة الجميلة، فلا يزال هناك وقت، ولا يزال هناك الكثير لتفعله وتسعد به في رأيها!! فأبديت لها سعادتي وإعجابي بإقبالها على الحياة، فصمتت لحظة ووجدت في عينيها لمحة من حزن، ثم قالت إنها ومع ماتشعر به من وعكات صحية وآلام، بالإضافة إلى ما عانته في حياتها من هموم، إلا إنها دائما ما تردد جملة اعتادتها في حياتها وهي:(غدا سيكون أفضل، سوف أكون بخير، وسوف تسير كل أموري على ما يرام). ومع نهاية هذا الحديث الممتع مع هذه السيدة قالت إنها ستقدم لي هدية، وهي أغنية تغنيها بصوتها، فرحبت بذلك ضاحكة، ثم بدأت بالغناء بصوت قوي جميل مرتفع، وبطريقة فنية أوبرالية لفتت أنظار من كان يجلس بقربنا، وأحدثت نغماتها صدى في الفضاء وهي تردد: (أريد أن أحلق في السماء.. الحياة جميلة..وأنا أريد أن أكون مثل فراشة ملونة.. تلون السماء.. فراشة سعيدة.. تطير عاليا..عاليا في الفضاء). ثم أنهت غنائها بضحكة عالية، ومدت يدها لتصافحني قائلة: كم أنا سعيدة بتعارفنا، وأشكر لك مبادلتي الأحاديث. ثم إتجهت تكمل مشيها بمحاذاة البحيرة، فنظرت إليها لأنتبه إلى ألوان ملابسها الزاهية وخفتها، وكأنها حقا فراشة تطير بفرح. فحدثت نفسي في داخلي، لا شك أن علينا أن نفهم لماذا يضع القدر أحيانا مثل هؤلاء الناس في طريقنا لنتحدث معهم بضع دقائق، أليس لنا أن نتعلم ممن نصادفهم في الحياة؟ فنأخذ من هنا وهناك، ونعود أنفسنا مهما كان ما بحياتنا من هموم وألم أن نتقمص دور السعادة والأمل والغد الأفضل، وننصهر فيه حتى لايتركنا أبدا. وعدت أنظر إلى الفراشة وقد إبتعدت كثيرا، وأنا ما زلت أحدث نفسي:( ليتني.. بل ليتنا جميعا نستطيع أن نكون مثلك )..