14 سبتمبر 2025
تسجيل"رائِعة يا رجُلْ"... هكذا وصف وزير الخارجية الأمريكي جون كيري المذاق العربي الأصيل للكنافة والشاورما في أحد مطاعم رام الله بالضفة الغربية، أثناء زيارته الأسبوع الماضي لفلسطين في سبيل جهود إحياء محادثات السلام التى انهارت في 2010، وقد يكون أحد أسباب التعجيل ظروف الربيع العربي المفاجئة والحاسمة عام 2011 في دول الجوار، وحساسية الوضع في أقرب جار وتراجع موقف السياسة الأمريكية تجاه سوريا التي تحولت من قضية حماية شعب ضد حاكم مستبد إلى مصالح دولية مشتركة بعد التفاوض الروسي الأمريكي وبعبع إرهاب سمي بـ "جبهة النصرة" واطلاقات نمطية بـ "الإسلاميين الراديكاليين" أو "الجهاديين" وتأمين ساحة الربيبة في منطقة الشرق الأوسط. خصوصا في ظل اتفاق "تبادل الأراضي" الذي تم التوصل إليه مسبقا على خلفية اشتراط ذلك في سبيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 67، تلك المبادرة المطروحة قبل اجتماع "المبادرة العربية" في الجامعة، ومع تجدد اشتراطات اسرائيلية يمينية متطرفة جائرة بيهودية الدولة دون سبل حل نهائي يحفظ للاجئين "حق العودة"، ودون تقدم يذكر في مصير القدس وسرطان المستوطنات. نزول كيري تاريخي لأنه يحمل رمزية ممارسة الحياة الشعبية "عيش وملح" في شوارع رام الله في بلد مختنق ومع شعب مطحون اقتصاديا فوق طحنه في أهم حقوقه الإنسانية: بيته المستوطن، وأرضة الكبرى المحتلة. كيري لم يقبلها ضيافة فلسطينية لدى شعب مشهور جداً بـ "الكرم" بل أرادها لقمة مدفوعة ولهذا تحليل اقتصادي آخر فوق البعد الدبلوماسي والسياسي أو البعد الشعبي الذي يطلق عليه المثل العامي "عَشَان ما يَحمْلُونه جِمِيْلِهْ"، والجميلة في السياسة "كبيرة" أقصد "أكبر". أما البعد الثقافي، فالكنافة النابلسية من أشهر الكنافات في العالم ودخلت فيها نابلس عام 2009 موسوعة غينيس ربما "إسقاطات" تعبيرا وتعويضا عن حجم خسارة الأرض العربية اليانعة وخزائنها الطبيعية التي نهبتها اسرائيل. وأتمنى ـ في مفارقة أدبية ـ ألا يُسرق تاريخها أيضا كما سُرق الوطن وسُرق غيرها. ولأن الشيء بالشيء يذكر، كنت قد دخلت مقهىً شعبيا بسيطا في أحد شوارع مدينة ملبورن الاسترالية، تُشمّ عبق قهوته عن بُعد، ولم اجد مقعدا وإذا بي اجد رجلا اجتهد في أن يتبعنا مناديا بأنه قد توفر مكان، فجلست لاحتسي القهوة وكانت طيبة فعلا وكان الرجل هو المالك، ففتح معنا حديثا شيقا كان منه: "هل تعلمون أين تستطيعون ان تتذوقوا أحلى طبق حمّص وأحلى تبوله؟ التفت بسرعة ـ وكنت أبحث عن مطعم لبناني أوشامي لتناول العشاء ليلتها في أول زيارة لي لمبلورن ـ فأجاب: "الحمّص الإسرائيلي والتبولة الإسرائيلية في تل أبيب" ... للأسف لا تسرق الأرض فقط، بل تاريخ الدول بل حتى الموروثات ومنها الطعام يعدّ "مستوطنات" تخضع للاحتلال والتزييف، لذلك تجد التبولة العربية والفلافل "الطعمية" والحمص وقد اكتست علبتهم في ثلاجات المتاجر الغذائية في الغرب وأمريكا وهنا في استراليا ايضا عنوانا براقا Israeli Hummus، Israeli Taboulleh أما كتب الطبخ العربية باللغة الإنجليزية في القارات الناطقة بالسياسة الإسرائيلية، فستجد أحلى الوصفات العربية المصورة بعنوان "المطبخ الإسرائيلي"!! ولكن لا أعلم هل يعود تاريخ المطبخ الإسرائيلي، أعني "العربي المسروق" إلى 1948 "تاريخ الاحتلال وإعلان قيام دولة إسرائيل "المغتصِبة" أم إلى 1949 تاريخ اعتراف الأمم المتحدة بها!؟ أم إلى تاريخ نكسة العرب 1967 في أراضيها لتمسح بذلك وطن وشعب وهوية، حتى لا تقوم للعرب قائمة حتى في ما يعتبره البعض أقل الأشياء "المطبخ" وهو أحد أسس التطبيع ومدخل لصناعة هوية وذاكرة جماعية للمحتل. كيري أشاد بالطعم العربي "المطبخ العربي" في تاريخ مختلف وخلفية اتفاقيات أو حسب القاموس الجديد "طبخات" جديدة، والتاريخ يذكر أن روبرت كنيدي، أقوى مرشحي الرئاسة الأمريكية في الستينيات وأكثرهم تأييداً لإسرائيل، غسل فمه بعد شربه القهوة العربية فور لقاءه بعض الدبلوماسيين العرب وقبل أن يحدث اليهود في أحد المحافل اليهودية، وكان له تصريحه الموثق في التاريخ قبل مقتله على يد المتهم "سرحان سرحان" الأمريكي الجنسية الفلسطيني الأصل، الذي لم يفتح عينه إلا في امريكا في ظروف سرقة وطنه. محمود درويش: اختصر قصة اتهام سرحان سرحان بدون أدلة في قصيدة: "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" والتي رسم فيها ملامح الإنسان الفلسطيني المنفي الذي يشرب قهوته في المنفى لا في الوطن، ويلخصها بقوله: "وماذا حدث؟ أنت لا تُعرَف اليوم، لا لون، لا صوت، لا طعم". درويش أشار إلى أهمية الطعم في الهوية مرة أخرى، حين صور سرحان متحسرا يقول: "ونعرف كنا شعوباً وصرنا حجارة ونعرف كنت بلادا وصرت دخان ونعرف أشياء أكثر وسرحان يكذب حين يقول رضعت حليبك، سرحان من نسل تذكرة، وتربى بمطبخ باخرة لم تلامس مياهك، ما اسمك؟ نسيت وما اسم أبيك؟ نسيت وأمك؟ نسيت وهل نمت ليلة أمس؟ لقد نمت دهراً حلمت؟ كثيرا بماذا؟ بأشياء لم أرَها في حياتي" النزول للشارع الفلسطيني لمبعوث السياسة الأمريكية، واحتساء القهوة مع الكنافة خروج جميل من بيت المطبخ السياسي إلى الواقع الشعبي المطحون، نتمنى أن يتجاوز الشكليات لينعكس مذاقه حلوا كما تذوقه كيري وأطراه، ولكن مزيّنا بمربى زهر ليمون يافا الفلسطينية المشهور تاريخيا، دون جحود أو نكران أو سرقات لحقوق شعبية أو سياسية أو جغرافية أو ثقافية، ودون تنازلات أمام ملفات أخرى دموية ساخنة للجار ذي القربى... والجار الجنب....والصاحب بالجنب.