12 سبتمبر 2025
تسجيلفى العام الماضى كتبت مقالا بعنوان " نجيب محفوظ والثورة " وكما هى العادة نشرت المقال فى " بوابة الشرق القطرية " وجريدة " الرئيس " التى يرأس تحريرها الزميل الفاضل أ . إبراهيم نصر وكذلك فى جريدة " رئيس التحرير " التى يرأسها الصحفى الجرئ صبرى غانم .. والمقال يتناول كيف تنبأ كاتبنا العظيم نجيب محفوظ بالثورة فى " ملحمة الحرافيش " وأن البشر – حتى ولو كانوا ضعافا من الحرافيش - إذا اجتمعوا على هدف وتوحدت صفوفهم فإنهم ولابد بالغين هدفهم خاصة إذا ما كان معهم عقل راجح مستنير لينظمهم ويقود صفوفهم .. راجع المقال فى الصحف المذكورة آنفا . والحقيقة أن هناك لدى الكثير من الناس – وأنا منهم – إقترانا شرطيا بين أستاذ الأجيال صاحب نوبل نجيب محفوظ وبين الكاتب المبدع والصحفى البارز محمد سلماوى .. ولهذا الإقتران أسباب كثيرة تبدو جلية لمن يتتبع كتابات سلماوى التى سنأتى إليها حالا ولكننى لابد أن أنوه بتلك الحوارات الصحفية المتميزة التى أجراها سلماوى مع محفوظ والتى كنا ننتظرها كما ينتظر المحبون من يعشقون على أحر من الجمر . أما عن أوجه التشابه بين سلماوى ومحفوظ فإن أكثرها وضوحا أن كلا الكاتبين كانت لديه القدرة على تكون كتاباته صالحة لكل الأزمنة تقريبا وأن شخصياته تتشابه مع العديد من الشخصيات فى زمان كل من يقرأ العمل الإبداعى .. هذا فضلا عن القدرة الفائقة على إظهار شرائح المجتمع المتباينة للقارئ وتناول هذا الإختلاف من وجهات نظر عديده .. وأنا أقول ذلك عن تجربة ومعايشة وخبرة شخصية .. كيف ؟ للأستاذ سلماوى مسرحيات عديدة تم تمثيلها على المسرح ومن ضمنها مسرحية " القاتل خارج السجن " والتى أخرجها المخرج الكبير سعد أردش عام 1985 كما أخرج له العديد من المسرحيات بعد ذلك لما لمسه من موهبة سلماوى البارعة فى استخدام مشرطه فى تحليل شخصيات رواياته كما كان فى مسرحية " فوت علينا بكره " ومن حسن حظى شخصيا أن شقيقى المخرج محمد عابدين كان يعمل فى ذلك الوقت مخرجا منفذا فى هذه المسرحية " القاتل خارج السجن " مع الأستاذ سعد أردش .. وفى هذه المسرحية بالتحديد كان كل من يشاهدها يلمس براعة سلماوى فى رسم وتشريح الشخصيات وأنه قد كتبها خصيصا لتلك الحقبة من الزمان حيث تدور أحداثها فى داخل أحد أقسام الشرطة والتى يتم احتجاز العديد من الشخصيات فى غرفة الحجز بذلك القسم ومن الطبيعى أن يكون هناك العديد من شرائح المجتمع أبرزهم تاجر المخدرات واللص والبلطجى والشواذ جنسيا وشرائح أخرى عديدة .. ومن المفارقات المخجلة أن يكون مع هذا الخليط الخارج عن القانون أحد السياسيين محتجزا دون ذنب والذى كان المحققون يستدعونه فى أوقات مختلفة فى محاولة منهم لإلصاق التهمة به فى إشارة واضحة إلى قمع المسئولين فى الدولة للسياسيين فى الماضى وفى الوقت نفسه كان نفوذ تاجر المخدرات وسطوة ماله تدفع بالجميع إلى حسن معاملته بالرغم من يقينهم بأنه مجرم وأنه مدان .. وكنت أذهب فى كل ليلة تقريبا إلى المسرح لأصطحب شقيقى محمد إلى المنزل وكنت أقف لأستمع إلى تعليقات الجمهور التى كانت لا تخرج عما ذهبت إليه فى السطور السابقة . وتمضى الأيام وتمر السنوات وتعرض للأستاذ سلماوى عدة مسرحيات منها " سالومى " عام 1986 ومسرحية " إثنين تحت الأرض " عام 1987 ثم مسرحية " الجنزير " عام 1992 . حتى كان عام 1994وكنت وقتها خارج البلاد عندما هاتفنى شقيقى محمد عابدين – الذى أصبح مخرجا فى ذلك الوقت – بأنه سوف يقوم بإخراج مسرحية " القاتل خارج السجن " .. ولم أصدق نفسى لأنها ذات المسرحية التى أخرجها الفنان سعد أردش من قبل لدرجة أننى سألته عدة مرات لأتأكد من المعلومة ولكنه أخبرنى بأن له رؤية جديدة للنص المسرحى وسيقوم بتناوله من زوايا مختلفة تماما عما سبق من قبل . وبالفعل عندما عدت إلى البلاد كنت مشتاقا إلى الذهاب إلى المسرح لأقف على ما يجرى هناك .. وبالفعل وجدت شيئا مختلفا عما شاهدته قبل عدة سنوات .. وجدت رؤية جديدة وإحساسا جديدا بالنص .. ومارست هوايتى القديمة فى الوقوف مع الجمهور بعد العرض لأستمع إلى الكثير منهم وهو يعتقد أن المؤلف قد كتب هذا النص ليواكب ما كان يحدث فى تلك الأيام . ولعل هذا يضيف خاصية جديدة إلى أدب الأستاذ سلماوى وهى أن أيا من أعماله يمكن النظر إليه من زوايا عديدة بحيث يكون لكل من يقرأ العمل رؤية تختلف عن الآخرين .. ولعل مسرحية " القاتل خارج السجن " من المسرحيات القلائل التى تم إخراجها وبالتالى عرضها أكثر من مرة. أما أهم أوجه الشبه بين كتابات سلماوى ومحفوظ فهى أن كليهما كان لديه القدرة على استباق الأحداث قبل وقوعها .. وكما تنبأ نجيب محفوظ بالثورة فى " ملحمة الحرافيش " قبل سنوات طويلة فإن سلماوى كتب رائعته رواية " أجنحة الفراشة " قبل ثورة يناير بعدة أشهر وطبعت على شكل كتاب متوسط القطع فى 191 صفحة نشرته الدار المصرية اللبنانية . وفى هذه الرواية تتجلى موهبة سلماوى على قراءة معطيات الواقع وقدرته على استشراف المستقبل مما قد يعتبره البعض – من غير ذوى الموهبة - نوعا من التنبؤ .. ولكن سلماوى ليس عرافا بل هو إذا كان قد تنبأ بحدوث عاصفة من الغضب تهز أركان النظام الحاكم فإن ذلك بسبب فهمه لكل ما يدور حوله فى المجتمع من أحداث وتطورات تؤدى حتما إلى نتائج تتوافق مع ما سيحدث وتفرز ذات السيناريو الذى حدث فى الواقع والذى توافق مع رؤية سلماوى المستقبلية .. فكان الغضب وكانت المظاهرات التى عمت البلاد مما اضطر الحكومة إلى عقد عدة إجتماعات طارئة وتصدر قرارا خطيرا بحظر التجول بعد أن كان الناس قد نسوا ذلك لأن مثل هذا القرار لم يصدر منذ ما يقرب من نصف قرن . وهنا يقول سلماوى أن حركة الجماهير كانت أقوى من أى قرار .. فلم يلتزم أحد بهذا الحظر مما دعا الحكومة إلى اتخاذ قرارا ثانيا بنزول قوات الأمن المركزى إلى شوارع القاهرة والمحافظات .. ولم يكن أحد يتصور أن قوات الأمن المركزى هذه تعادل قوات الجيوش العسكرية .. فماذا كانت النتيجة ؟ تزايدت أعداد المتظاهرين فى كافة أنحاء البلاد وامتنع الموظفون عن الذهاب إلى أعمالهم كما أغلق التجار محالهم .. وتضطر الحكومة إلى أن تعلن أنها كشفت عن مؤامرة مدعومة من الخارج لقلب نظام الحكم وبالتالى تطلب الحكومة على لسان رئيسها من وزير الدفاع الإستعداد للنزول إلى الشارع خلال ساعات .. ولكن وزير الدفاع يرفض إنزال قوات الجيش لأنها وجدت أصلا للدفاع عن أرض الوطن ضد الغزاة والمحتلين وليس لضرب المصريين أيا كانت إنتماءاتهم أو أفعالهم ولو وجد بينهم من خرج عن القانون فليقدم للمحاكمة وينال جزاءه وفقا للقانون .. وأضاف وزير الدفاع بأنه غير سعيد بما يحدث فى البلاد من فوضى وأنه لن يسمح باستخدام الجيش فى أى صراع سياسى . وهكذا تتجلى موهبة سلماوى – كم أسلفنا – فى قراءة الواقع وفهمه وبالتالى تخيل السيناريو الذى سيحدث والذى جاء مطابقا للواقع وكان كأنه مؤرخ يكتب بعد وقوع الأحداث ويرويها لدرجة أنه تنبأ ببزوغ شخصية وطنية – وزير الدفاع – تنحاز إلى الشعب وهو فعلا ما حدث على أرض الواقع .. ولا شك أن موهبة سلماوى وغزارة انتاجه وجودته من النادر تكرارها فى عصر شحت فيه المواهب إلى أقصى حد .. وفى النهاية يجدر بنا أن نشير إلى عدة أعمال أخرى للمبدع سلماوى منها مسرحية " عودة سالومى الأخيرة " عام 1999وروايات " الرجل الذى عادت إليه الذاكرة " عام 1983 و " الخرز الملون " عام 1990 و " باب التوفيق " عام 1994 والمجموعة القصصية الرائعة " وفاء إدريس وقصص أخرى " عام 2000 .. ولعل رواية " الخرز الملون " هى أكثر أعمال سلماوى شهرة وأقربها إلى القراء .. وأنا أؤكد أن جمهور قراء الأستاذ سلماوى ينتظر منه المزيد من الإبداعات . وإلى اللقاء فى موضوع جديد ومقال قادم بحول الله .