29 سبتمبر 2025

تسجيل

الخبز بلون الدم وطعم الموت في سوريا

26 ديسمبر 2012

"لقمة مغمسة بالدم" كانت كناية عن التعب والنصب الذي يلاقيه كل من يطاردون لقمة عيشهم بسبب صعوبة موارد الرزق، أما بعد مسلسل قصف المخابز المتواصل بسوريا وخاصة مجزرة حلفايا، وبعدها في مخبر تلبسية بحمص فقد أصبحت اللقمة مغمسة بالدم فعلاً لا مجازاً. في مدن الشام يغمسون لقيمات الخبر بالزيت والزعتر والشاي، على موائد الإفطار والعشاء في العادة، ولكنها في حلفايا غمست بالدم القاني، وهو ما نقلته عدسات التلفاز، وتابعه العالم بصور حية حينما اختلطت دماء الشهداء من الأطفال والنساء والرجال العزّل الذين يتجمعون أمام المخبز بأرغفة الخبز التي كان بعضهم حصل عليها للتو، ليكون الخبز بطعم الموت، بدلا من أن يكون سبيلا لسدّ الرمق لأكباد أنهكها الجوع والحصار، والتشبث بالحياة، بسبب الغلاء الفاحش وصعوبات الحصول على الغذاء في ظل أوضاع إنسانية بالغة الحرج. كان الخبز ولقمة العيش منذ أربعين عاما هاجس المواطن السوري، منذ أن عمد النظام في عهد الأسد الأب إلى سرقة مقدرات البلاد، وترك الناس يلهثون لتحصيل الفتات وإشغالهم عن تدميره الممنهج لاقتصادهم ووطنهم، أو مجرد تفكيرهم في الهمّ العام، وشؤون البلاد والعباد. وعندما ثار الشعب ضد نظام الأسد الابن استخدم هذا الأخيرـ مثل أبيه ـ الرغيف وسيلة للضغط على المدنيين من الأهالي وإذلالهم، تجويعاً وتخويفاً، ظناً منه بأن ذلك سيدفعهم للتضجر من الثورة وتبعاتها، وكراهية الجيش الحرّ، أي إحداث شرخ بين الحراك الثوري والحاضنة الشعبية له. هذا السياسة ليست جديدة على هذا النظام، الذي يواصل ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق شعبه، ففي أحداث حماة الشهيرة عام 1982 التي ارتكبها الأب في غياب الفضائيات والبث المباشر، وراح ضحيتها آلاف السوريين آنذاك حدث أن وقعت مجزرة رهيبة بعد أربعة عشر يوماً من الأحداث الدامية التي شهدتها المدينة، وكان الناس قد بدأوا يخرجون قليلاً من بيوتهم. طلب الجنود من الأهالي التوجه نحو سيارات الخبز في أطراف أحد الشوارع.. أسرع الأطفال، وكانوا بالعشرات، حملوا الخبز وقفلوا عائدين.. اعترضهم الجنود.. وطلبوا منهم الدخول إلى (الجامع الجديد) ـ في نهاية شارع 15 من مارس، حيث يقوم تقاطع مع سوق الطويل. وهناك فتحوا عليهم النار.. وسقطت الأجساد الطرية، وسالت الدماء الطاهرة على الخبز الذي كان لا يزال في الأيدي الصغيرة. في ظل الثورة السورية صار الاستهداف للمخابر واضحا على الأقل منذ شهر أغسطس الماضي عندما قصف عدد من التجمعات للمدنيين أمام الأفران في عدة أحياء من مدينة حلب بالطائرات والراجمات لعشرين مرة، وتم تكرار نفس هذه الجرائم في عدد من المدن الأخرى في استخفاف واستهزاء صارخين بجميع الشرائع والأعراف والقوانين التي أقرتها أمم العالم لحماية الإنسان وضمان أبسط حقوقه وكرامته. وقبل ذلك بدأ الأمر بإغلاق بعض المخابز أو تهديد أصحابها بذلك، أو بقطع الدقيق أو الوقود عنها، في حمص وريف دمشق، للضغط وعرقلة الحراك الشعبي، ليتطور الأمر إلى إطلاق النار عليها وجعل الناس يبتعدون عنها، وأيضاً يتخوفون من الوصول إليها ومن ثم إفهامهم من قبل النظام بأن مطالبكم بالحرية والكرامة ستكون نتيجتها المحاربة في لقمة عيشهم، وأن حياتكم ستصبح جحيماً لا يطاق بشتى السبل التي نستطيع القيام بها. وبالمجمل لا يمكن فهم ما يقوم به النظام السوري من خلال تركيبته الأمنية والعسكرية بمعزل عن إستراتيجيات التجويع والتخويف والترهيب المشابهة لأنظمة ديكتاتورية سابقة كالسوفيتية والألمانية والرومانية، خصوصا بعد أن وصل إلى نقطة "أنا أو الطوفان"، بمعنى أن ما يقوم به رسالة واضحة باغتيال رغيف الخبز، ومن يريد الوصول إليه في المناطق الثائرة عليه، أو التي يسيطر عليها الجيش الحر، وهي كبيرة على امتداد الخارطة السورية من خلال اتباع سياسة التجويع بقصف المخابز الرئيسية أولًا، وثانيًا من خلال استهداف أعداد كبيرة من المدنيين الذين اصطفوا في طوابير في انتظار مخرجاته. المؤسف أن هذه الجرائم ضد الإنسانية تتم أمام مرأى العالم دون أن يحرّك ساكنا، رغم تكرارها منذ شهور، مصحوبة ببدء استخدام غازات الأعصاب والقنابل الفوسفورية، والأدهى من ذلك أن يتزامن ذلك مع جهود سياسية للمجتمع الدولي للبحث عن حلول للأزمة السورية ترتكز برغم ذلك على إبقاء الرئيس الأسد الذي يعدّ المسؤول الأول عن هذا الإجرام. مطلوب من المجتمع الدولي والعالم التدخل السريع إزاء جرائم ومجازر الخبز التي يواصل النظام وفق ما يلي: ـ منع حدوث أزمة غذائية ومجاعة في سوريا بسبب انعدام الخبز، وتوفير الأفران والمواد الخاصة من دقيق ووقود لإنتاجه بوفرة في المناطق المحررة، تجنبا لحدوث طوابير بشرية ناتجة عن ندرته، يمكن أن تكون أهدافا لآلة النظام العسكرية، والبحث عن آليات مبتكرة لتوزيعه، تمنع وقوع ذلك. ـ توثيق هذه المجازر من قبل منظمات حقوقية وإنسانية وفتح تحقيقات ميدانية بشأنها كما فعلت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في حلب، والتي تبين لها أنها وفق للباحث أولي سولفانج أن: "عشر هجمات على المخابز ليست عشوائية.. إنها تظهر لا مبالاة بالمدنيين وتشير بقوة إلى محاولة استهدافهم"، تمهيدا لمحاكمة مرتكبيها لاحقا سواء من أطلق القذائف أو أصدر أوامر بشأنها. لعل ذلك أن يسهم في وقف المزيد من نزيف جراح الشعب السوري وحمامات الموت والمجازر التي تحصد أرواح المئات من أبنائه يوميا.