13 سبتمبر 2025
تسجيل..... نواصل الحديث حول كتاب «دفاتر فلسطينية» لمؤلفه معين بسيسو. يُصبح الكلب أداة من أدوات التعذيب والذي كان يأكل اللحم يومياً في بداية توظيفه، حيث أصبح بعد أربعة أشهر «يمضغ قطعة اللحم فقط ويبصقها إلى جوار القروانة، وعليك أن تمد يدك وتتناولها وتأكلها أمام السجّان». وفي سجن القناطر الذي تختلط فيه أطياف المساجين، والذي كان يضم بين جدرانه عددا من اليهود الذين تم احتجازهم أثناء العدوان الثلاثي، يحمل الصدى المتردد مصرياً من زنزانة ما، رجاءً يخص الفلسطينيين وحدهم. يقول معين: «في الصيف يأخذك القطار إلى البحر، وفي الشتاء يأخذك المطر إلى الشجر، ومن بعيد كان يأتي إلينا صوت أحد المسجونين العاديين وهو يصرخ في الليل يحمل البشارة: عنبر فلسطينيين.. كله يسمع! ما سجن انبنى على سجين.. ولا مستشفى انبنت على مريض.. أخوكم المعلم عبدالباسط عبدالعال.. طالع من عشرين سنة أشغال.. عقبال عندنا وعندكم يا حبايب». ثم يقرر السجناء الفلسطينيون مع رفاقهم المصريين فلاحة مزرعة بزعامة مهندس زراعي معتقل بينهم، فالسماد أمكن تصنيعه طبيعياً من دورات المياه في الواحات، والبذور أمكن تهريبها مع السجين المراسل، أما الماء فكان بالإمكان استدراجه من النبع البعيد. بعد استغراب وضحك مأمور السجن ومن معه، تتم الموافقة ويتم استحضار ثور للحرث، الذي ما أن أتم عدة أيام حتى خر فأصبح طعاماً دسماً للمساجين الذين نسوا طعم اللحم. يصف معين ثمرة جهدهم بعد ذلك قائلاً: «الماء بدأ يسيل من النبع يجري في قناة، والقناة كانت تتحول إلى شرايين والرفاق يصيحون: الماء الماء». يصر السجناء المصريون على تخصيص مزرعة للفلسطينيين يفلحونها كما شاءوا، وقد زودوهم بالماء والبذور من غير شرط، أطلقوا عليها «مزرعة غزة». يهرّب أحد الرفاق راديو ترانزستور يعتبره البقية بمثابة «إلهاً عجيباً»، يسمعون من خلاله سيل من أكاذيب يبثها مذيع ناعق من ميكروفون (صوت العرب) ينفي بها وجود معتقلين فلسطينيين في سجون مصر الحربية، وكان يصدح هامزاً لامزاً: «يا إذاعة 14 تموز 1958، يا إذاعة عبدالكريم قاسم، اسمعوا أيها العرب». كانت المؤثرات الموسيقية كفيلة بإقناع العرب بهذه الكذبة «إلا أننا كنا في زنزانة ونعرف جيداً أننا معتقلون». هكذا كان يعلق معين مع رفاقه الغاضبون الذين كانوا يهتفون «كذاب كذاب.. لا بد أن يقدم للمحاكمة.. نحن هنا». ليس كل من يقع في براثن السجن ظالماً، بل منهم الشرفاء ممن يدفع الثمن رصيداً من عمره، غير أن الكثير من الظالمين طلقاء، حيث يعقّب معين -في مفارقة- لحظة خروجه من السجن وهو ينظر إلى المشاة قائلاً: «وما أكثر المعتقلين في الشوارع ولكنهم يمشون». يُفرج عن الرفاق أخيراً، وأولئك السجّانون -الذين لا يترددون في اعتقال الجنين وهو في رحم أمه- يصافحونهم بعناق، أولئك الذين ما برحوا يصورون فلسطين في «الكلبش والزنزانة والكرباج»، غير أن شجرة الزيتون تبقى خير ما تمثل شموخ الأرض. يقول معين عن هذه اللحظة في خاطرة أكثر شموخاً: «وعليك أن تتذكر أن عليك أن تعتذر إلى الزيتونة حينما تسألها قطعة صابون لكي تغتسل». ومن صفحات ضمت ذكريات عذبة، يبدو لموسم الحصاد ذكرى شاعرية لدى معين، عن سنابل قمح تتنشق شعاع الشموس وتسكن مع سكون الليل البهيم. يقول: «وكان أبي يأخذني معه دائماً في موسم الحصاد، وفوق كومة من سنابل القمح كان يضع فروة خروف ويغطيني بفروة أخرى. وهكذا كنت أنام وتحت رأسي سنبلة وفوق رأسي نجمة». ويمضي به والده إلى جانب قناة ماء تفصل بين (غزة) و(بئر السبع) حين كان يعلمه الصيد. يقول: «وعلمني كيف أحب الماء الذي تخرج منه الطيور». وبعد طول فراق وفي دفتره السابع يزوره والده، فيبدو حينها كالشجر الذي يموت واقفاً، ويبدو هو كالشبل من ذاك الأسد. يقول: «فلقد كان هو.. هو! المتشرد العظيم الواقف أبداً وغير القابل للسقوط». أما عن كيف يورق الماء على سبورة العلم أشجاراً بأصابع المعلم الفلاح! يقول معين وقد تحدث عن معلمه الذي كان يشبه قطرة المطر: «وحينما يتحول الفلاح إلى مدرس تتحول الأشجار كلها إلى أصابع طباشير». لكن فلاح غزة لا يأبه بسياج أحاط بأرضه، حيث تأخذه شمس الحقل نهاراً ليحصد قوته، حتى يحمله ليله فوق نعش: «الفلاح من غزة يقص بأصابع يديه الأسلاك الشائكة ويذهب لزرعه، يعود بحزمة سنابل ويسقط مثقوباً بالرصاص. وفي صباح اليوم التالي يعلنون قتل متسلل». ختاماً، ومع معين بسيسو الذي امتن لزنزانته التي لا تفرق عن زنازين أخرى بلا قيود، فقال: «علمتني الزنزانة السفر إلى مسافات بعيدة، وعلمتني أيضاً الكتابة لمسافات بعيدة». ومع كل هذا الوجع الذي جاء فلسطينياً بامتياز ولم يكن يحمل ذنباً، فقد جادت قريحة الإمام الشافعي من ذي قبل فأطرب إذ قال: وإني لمشتاق إلى أرض غزة .. وإن خانني بعد التفرق كتماني سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربتها.. كحلت به من شدة الشوق أجفاني