29 أكتوبر 2025

تسجيل

العولمة والساخطون عليها

26 أكتوبر 2015

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); نحن اليوم أمام كتاب "العولمة والساخطون عليها"، والذي حقق لسنوات أعلى المبيعات في الولايات المتحدة والعالم وقت صدوره خلال الألفية الثالثة، ومؤلف الكتاب هو جوزيف ستجليتز (Joseph E. Stiglitz)، وهو اقتصادي أمريكي لامع وحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، اكتسب شهرة عالمية واسعة رغم افتقاره للشعبية في بلده الأم أمريكا بسبب أفكاره ومواقفه التي تنحاز للبسطاء في العالم وتعادي النخب المالية ومناصيرها.وقد عمل المؤلف رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" خلال الفترة من 1993 إلى 1997م، ثم التحق بعدها بالبنك الدولي، حيث شغل منصب كبير الاقتصاديين حتى عام 1999. وقد حصل "ستجليتز" على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2001 (مع كل من جورج اكرلوف ومايكل سبانس) نظير إسهاماته العلمية في فهم كيفية تأثير المعلومات على الأسواق من خلال تفسيره للحالات التي يتوافر فيها لأحد طرفي معاملة ما معلومات أقل مما يتوافر للطرف الآخر وما يسببه ذلك من نتائج غير عادلة تماماً في الأسواق.وقد تناول هذا الكتاب تقويم دور إحدى أهم مؤسسات العولمة في العصر الحديث، ألا وهو صندوق النقد الدولي من خلال تشخيص أهم جوانب الإخفاق في مسيرته والبحث في مسبباتها، ومن ثم تقديم مجموعة من المقترحات التي من شأنها تفعيل دوره المستقبلي في إدارة التحولات النقدية والمالية العالمية. وهنا نبدأ التساؤل عن الكيفية التي سيواجه بها صندوق النقد الدولي مسار العولمة، وكيف يرى أهدافه في ظلها، وبأي وسائل سيسعى لتحقيق هذه الأهداف؟.فإذا كانت الأهداف التي يرمي الصندوق لتجسيدها هي تعزيز الاستقرار الاقتصادي العالمي ومساعدة البلدان النامية والتي تمر بمرحلة انتقال لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي، فقد أصبح يهتم أيضا بمشاكل الفقر ومحاربته والتي هي في الأساس من مهام البنك الدولي. يضاف إلى ذلك أن الصندوق فشل فشلاً ذريعا في تحقيق هذه الأهداف، وأن هذا الفشل لم يكن مجرد حدث تلقائي، بل كان نتيجة حتمية للكيفية التي أدار بها الصندوق مهامه خلال السنوات الماضية. فقد كان شعاره هو أن "ما تراه النخب المالية جيد للاقتصاد العالمي يجب فعله"، وحتى وإن كان هذا الشعار صحيحاً في حالات معينة، فهو غير صالح في الكثير منها، وذلك لأن هذه النخب المالية دائماً تنساق وراء مصالحها الشخصية بغض النظر عن مصلحة الاقتصاد العالمي، وقد ساندتها في ذلك الأيديولوجية السائدة على مستوى الصندوق ألا وهي "أيديولوجية حرية الأسواق". ويتضح سبب فشل الصندوق في أداء مهامه بافتقاده للتناسق الفكري وابتعاده عن أفكار الاقتصادي البريطاني الشهير "جون ماينرد كينز"، الذي كان أحد الأطراف الفاعلة في تأسيس الصندوق خلال مؤتمر "بريتون وودز" عام 1945، فقد أكد "كينز" على ضرورة ارتكاز الصندوق في مهامه على المبادرة الجماعية لتغطية نقائص السوق ودعم الطلب الكلي العالمي لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وممارسة الضغط على البلدان حتى تحافظ على اقتصاداتها عند مستويات التشغيل الكاملة، بالإضافة إلى تشجيع البلدان الأعضاء في الصندوق على توفير السيولة للدول التي تكون في حالة أزمة لا تسمح لها بالتوسع في نفقاتها العامة.ولكن ما هو ملاحظ اليوم هو العكس تماما، فمنطق السوق هو الذي يسيطر على الصندوق، والمتعصبون لهذا المنطق هم الذين يتولون إدارته، وأن الصندوق يرفض تماماً "الفكر الكينزي"، وأكثر من ذلك يمارس ضغطاً على البلدان النامية لتبني السياسات الانكماشية بدلاً من التوسعية. كما قام بصياغة سياسات وبرامج اقتصادية زادت من حدة المشاكل التي أراد معالجتها. ومن هنا تبرز أهمية وجود نظرية جديدة لتقويم دور الصندوق وجعل المبادرة الجماعية الخيار الأنسب لمواجهة اختلالات الأسواق وتفادي مختلف الأزمات والمشاكل الاقتصادية.فالعجز التجاري الذي يولي له الصندوق اهتماماً خاصاً، ويعتبره من أخطر المشاكل التي تواجه البلدان، حيث يفرض الصندوق ضغوطاً على بلدان العجز لمعالجة هذه المشكلة، لأن استمرار العجز في بلد ما سيدفعه للاقتراض كل عام، وسيواجه مخاطر حقيقية إذا ما توقف دائنوه عن منحه قروضا جديدة لتغطية عجزه. وهنا يتضح أن العجز التجاري ليس مشكلة حقيقية، فالعجز في بلد ما يقابله الفائض في بلد آخر، وهذه هي قواعد المحاسبة بين البلدان.أضف إلى ذلك أن مجموع الفوائض في العالم يساوي مجموع العجز المسجل. فعلى سبيل المثال إذا أرادت اليابان أو الولايات المتحدة مثلا تحقيق فوائض تجارية، فإن ذلك معناه تحقيق العجز في بلدان أخرى.وتبعاً لذلك فإنه ليس من العدل أن يفرض الصندوق ضغوطاً على بلدان العجز فقط، بل لابد من فرضها على بلدان الفائض أيضاً. فالمنطق السائد على مستوى الصندوق لإدارة أزمات المديونية يفرض على البلدان النامية أن تبقى حبيسة ديونها، ولا يحق لها المضي نحو تطورها وتنميتها، مما أثر سلبا على فاعلية الاقتصاد العالمي.وبالنسبة للإستراتيجية التمويلية الجديدة التي تبناها صندوق النقد الدولي، ألا وهي إشراك القطاع الخاص في قراراته التمويلية، حيث إن هؤلاء الخواص (النخب المالية) هم الذين يحددون أسعار الفائدة على قروضهم حسب خطر كل بلد، ولا يستطيع الصندوق إجبارهم على الإقراض وفقا لشروطه. والأدهى من ذلك أن هذه النخب المالية هي التي أصبحت تتحكم في القرارات التمويلية للصندوق، إذ لا يمكنه أن يمنح قروضاً إلا بعد موافقتها وهذا ما يفسر عدم تمكن بعض البلدان من الاقتراض من الصندوق رغم ملاءتها المالية.وبناء على ما سبق يتضح فشل الصندوق في مهامه والذي أضحى بارزاً للعيان. ورغم محاولات الصندوق البحث عن إستراتيجيات بديلة لتصحيح مساره، إلا أنه فشل في ذلك لافتقاده لنظرية متكاملة ومتناسقة.وانطلاقا من ذلك نقترح دوراً جديداً للصندوق يمكنه الاضطلاع به مستقبلا، وهو أن يكون الصندوق بمثابة "الملجأ الأخير للإقراض"، تماما مثل الدور الذي يقوم به البنك المركزي في أي بلد معاصر، حيث يقرض البنوك ذات الملاءة والتي لا تتوافر على سيولة، لأنها لا تستطيع الحصول عليها من جهة أخرى.وعموماً، فإن التشريعات البنكية في البلدان المتقدمة كانت هي السبب في هذه الأزمات، فالتشريعات البنكية في اليابان دفعت بنوكها إلى منح قروض بمعدلات جذابة إلى تايلاند، وهو ما دفع بالمقترضين هنالك إلى الإفراط في الاقتراض. والشيء نفسه حدث مع تحرير التشريعات البنكية في أمريكا والبلدان الصناعية. وكبرى شركات الاستثمار المالي في العالم، كثيرا ما شجعت عملاءها على استثمار محافظهم في بلدان جنوب شرق آسيا نظراً للعوائد المغرية التي تدرها في هذه البلدان، وأغفلت المخاطر الأخرى لها كالمديونية المفرطة لكوريا الجنوبية والعجز التجاري الكبير لتايلاند خلال تلك الفترة، وكذا السلوكيات البنكية لبنوك هذه الدول التي كانت تمنح قروضا دون تغطية.ثم إن الكثير من بنوك البلدان الغربية قامت بإقراض كبرى الشركات الكورية وهي على علم تام بمستوى ديونها الكبير، وقد ارتكبت هذه الأخطاء في منح القروض ولم تلجأ إلى استخدام أدوات إدارة المخاطر المتطورة جدا في البلدان الغربية. وأخيراً، أؤكد على الدور الأوسع للصندوق مستقبلاً من خلال أدائه لوظيفة "مقرض الملاذ الأخير" والذي من شأنه أن يرفع من فاعلية الصندوق وقدرته على إدارة التحولات النقدية والمالية العالمية في ظل العولمة.