20 سبتمبر 2025
تسجيلرغم أن مازلنا في فصل الخريف.. إلا أنه يمكن القول بكل ثقة واطمئنان إن أزهار ربيع الثورات العربية بدأت بالتفتح فعلا، لتحيي أملا بغد أفضل طالما طال انتظاره بعد معاناة امتدت لنصف قرن من أنظمة عربية ديكتاتورية فاض الكأس بظلمها، ولتنشر عبق الحرية في أوطانها ومحيطها مهما تناءت الديار، بعد أن كان الاستبداد برائحته النتنة المزعجة يزكم أنوف البلاد والعباد لعقود خلت. ومثلما أثرت التغيرات المناخية الكونية عبر الأزمنة وفعلت فعلها في الطبيعة من حولها فإن الثورات كل لها فعلها هي الأخرى فإذا بأكمام ربيعها تتفتح في مواعيد جديدة، لتنشر الخير والفرح بين أهلها، وتبشر بموسم واعد من العطايا تنزل على قلوب المناضلين والمصابرين وذويهم ومحبيهم بردا وسلاما، وتحيي في قلوبهم جذوة الأمل بغد أفضل يحلمون به، وتمنحهم ثقة بسنن الله في انتصار أصحاب الحق على أرباب الباطل مهما ارتفعت الأثمان وعزّت التضحيات، وطال الزمن، رغم الآلام التي تعتصر القلب كمدا وحزنا وألما مع كل شهيد سقط ويسقط في سوح النضال، أو مع كل قطرة دم زكية أريقت أو تراق على دروب الحرية، أو مع كل إنه معتقل في عتمة سجون القهر، أو مبعد عن دياره نجاة من بطش الظالمين، أو مع كل آهة أم أو زوج مكلومة لفقد عزيز أو لمعاناة مصاب في سوريا واليمن منذ مطلع العام الجاري وحتى الآن. نقول هذا والأمة لا تزال تعيش ومنذ أيام قليلة في ظلال فرحين من أفراح ربيع الثورات يتمثل الأول في طيّ صفحة القذافي السوداء بعد مقتله وإعلان تحرير ليبيا، فيما يتمثل الآخر بإنجاز أول انتخابات تونسية ديمقراطية وتمكن الشعب من اختيار من يمثله في المجلس الوطني التأسيسي، بكل انعكاسات ذلك على الشعبين الليبي والتونسي، والشعبين السوري واليمني. من المفارقة أن تقام الاحتفالات لموت شخص، ولكن خاتمة الطغاة تأبى إلا أن تكون كذلك، فلا شعور بالراحة إلا بالخلاص من شرورهم، ولا فرحة أو نشوة أو سعادة إلا بانقطاع دابرهم.. وهكذا لم تبك أرض أو سماء على مقتل القذافي سواء من شعبه أو من شعوب الأرض، كيف لا وقد كان مجرما منفلتا من كل قيد أو عقال، مستبيحا لكل محرّم، مسكونا بجنون العظمة، مرتكبا للمجازر بحق الأحرار من شعبه، مدمرا لمقدرات بلاده، سارقا لثرواتها، مبددا لها في مغامراته ونزواته. أليس هو من أغلق ليبيا لمدة تزيد عن أربعة عقود، وتركها خارج إطار الزمان والمكان بسبب تهويمات "لجانه الشعبية" وتنظيرات "كتابه الأخضر"، و"نظرياته الثورية"، أليس هو من ارتكب المجازر في سجن "أبو سليم" وغيره، وتوعد شعبه بالويل والثبور عندما خرج عن طوعه بعد ثورته عليه، ووصمهم بالجرذان، أليس هو من موّل حروبا في دول مجاورة وفجّر الطائرات فوق لوكربي، وأنفق الأموال الطائلة لتخلع عليه الألقاب كملك ملوك إفريقيا، أليس هو من اتضح أن ثروته تصل إلى 200 مليار دولار (تساوي 30 ألف دولار لكل ليبي) ليترك شعبه في حالة من الفقر، وبلاده من دون تنمية أو بنى تحتية، لا تليق بدولة نفطية عدد سكانها محدود. أما في تونس، فقد كشف توق سكانها لحق حرموا منه منذ استقلال دولتهم أن نسبة المشاركة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي تتجاوز 80 بالمائة ممن يحق لهم الانتخابات، وتعبيرهم عن الارتياح العميق لقيامهم بواجب التصويت، رغم طوابير الانتظار في مراكز الاقتراع، وعبر كثير منهم عن سعادتهم بذلك، ومنهم صديقي الأكاديمي المقيم في السعودية والذي كتب على صفحته على الفيس بوك: "توجهت بصحبة ابني إلى مقر السفارة التونسية بالحي الدبلوماسي بالرياض، أحسست أنني أستعيد حقا كان مغتصباً، وأديت الواجب..لأول مرة أشعر أنني مواطن استرجع بعض حقوقه المصادرة.. أتمنى أن تكون هذه المحطة بداية استعادة التونسي لحقوقه كمواطن في اختيار من يمثّله، ومن يحكمه... الانتخابات تتويج لثورة الكرامة وبداية مسار بناء الدولة الحديثة في تونس". وفي الاتجاه نفسه وصف زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الانتخابات بأنها تاريخية، مدللا على ذلك بقوله: "أبلغ من العمر سبعين عاما، وهذه المرة الأولى التي أصوت فيها". أما في اليمن وسوريا، فقد جاء رحيل القذافي وإعلان تحرير ليبيا ليمنح الثوار في الساحات مزيدا من العزم على مواصلة نضالهم السلمي، والثقة بوعد الله بالانتصار مهما طال الزمن، وبالمآل والمنقلب السيئ للطغاة مهما بلغ جبروتهم وتسلطهم، وبدت الشعارات والأهازيج المبتكرة ترسم لوحة ساخرة لنهايات من لم يأته الدور منهم بعد، وبالمقابل ليفتّ من عضد الظالمين وأعوانهم وأبواقهم الذين باتوا يحسبون ألف حساب ليوم مثل يوم القذافي ومن سبقه. ولأن كان اليمن قد عرف هامشا ديمقراطيا خصوصا بعد قيام الوحدة فإن السوريين يحسون بشعور مماثل لشعور التوانسة في الرغبة في استعادة حقهم في اختيار من يمثلهم في الانتخابات البرلمانية، خصوصا بعد أن حرمهم حزب البعث ونظام الأب والابن من هذا الحق اعتبارا من عام 1963، وظلوا قرابة نصف قرن لا يعرفون سوى الحزب القائد والحاكم، واستفتاءات رئاسية تصل نسب الفوز فيها إلى ما يزيد على 99 بالمائة. إن ربيع الثورات العربية مازال واعدا بمزيد من الزهور التي ستتفتح عما قريب بإذن الله، والتي ستحيل بيداء الديكتاتوريات العربية إلى جنة خضراء ذات منظر جميل ورائحة عطرية.. لأن الشعب إذا أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر له.