27 سبتمبر 2025
تسجيلعندما يكون هذا المقال بين يديك عزيزي القارئ، يكون عدد من أطفال غزة المصابين بالصمم وأسرهم على موعد مع عودة الأمل لحياتهم بإذن الله، وذلك بعد أن وصل إليهم أحد الأسماء اللامعة عربيا ودوليا في علاج الصمم، لإجراء عدد من عمليات زراعة القواقع الإلكترونية (جمع قوقعة) لهم، ألا وهو البروفيسور الإماراتي مازن الهاجري، ومن ثم عودة نعمتي السمع والتحدث لهؤلاء الأطفال. وسيكون لهذا الأمل وفرحة أهل وذوي هؤلاء الأطفال به طعم خاص، بالنظر إلى صعوبة إجراء مثل هذه العمليات لأسباب كثيرة من أهمها الفقر، وضعف دخول أسر هؤلاء الأطفال، وبالنظر إلى التكلفة المرتفعة نسبيا لمثل هذه العمليات، والحصار المضروب على غزة، وبالتالي صعوبة الاستطباب بسبب صعوبة الانتقال لدول عربية مجاورة، ونقص الكوادر والتجهيزات والمعدات الطبية اللازمة لإجراء مثل هذه العمليات (الزراعة) في القطاع. أهمية مثل هذه الزيارة التي يقوم بها الدكتور الهاجري للمرة الرابعة أو الخامسة خلال أربع سنوات، أنها تأتي في إطار إنساني خيري، من زاويتين، الأولى أن جمعيات خيرية ومحسنين كراما يتبرعون أو يتبنون من خلال مشاريع خيرية شراء القواقع الإلكترونية ( موّلت قطر الخيرية خلال زيارته الراهنة إجراء خمس عمليات بقيمة تبلغ حوالي نصف مليون ريال)، والأخرى أن الدكتور الهاجري يتبرع بخبرته ووقته لإجرائها مجانا. جمعتني الأقدار بالبروفيسور الهاجري أثناء زيارته الأخيرة لدولة قطرـ قبل توجهه لغزة مباشرة ـ فوجدت أنه رغم مكانته العلمية المرموقة ومن بينها أنه أول من اخترع وأجرى عملية زراعة القوقعة الإلكترونية على مستوى العالم بدءا من عام 2004، وأعلن عنها عام 2007، مسكون بحبّ الخير، ومساعدة الناس، فمسيرته في العمل الإنساني، قديمة تتوازى مع إنجازاته العلمية والمهنية، فقد شارك في عدد من المخيمات الطبية الخيرية منذ عدة سنوات في عدد من الدول العربية والإسلامية كقطاع غزة والصومال والسودان وليبيا وبنجلاديش وغيرها، وقد حدثني عن مراكز السمعيات التي أنشأها أو أسهم في إنشائها أو التي يسعى إلى إنشائها في كل من غزة والسودان، والتي تؤهّل الصم للتحدث على ما فهمت، وعن العمليات الأخرى التي يجريها للذين يعانون من مشاكل السمع، وعن مشاريعه الإنسانية المكمِّلة لهذا الجهد، مشيراً إلى أهميتها وانعكاساتها التنموية والاجتماعية والصحية التي تحوّل الأصم من خانة ذوي الاحتياجات الخاصة إلى إنسان منتج قادر على الانخراط في مجتمعه بدلا من أن يظل معزولا، وبحاجة إلى عناية ورعاية من حوله، وإلى مزيد من التكاليف المادية لإعالته ورعايته من قبل الدول والمجتمعات. وشدد على أهمية أن يدرك المحسنون ثمرة ما يتبرعون به لهكذا أعمال في المجال الطبي. إن هذه الزيارة والمهمة الإنسانية النبيلة تفتح المجال لتجديد الحديث عن ضرورة أن تهتم المؤسسات الخيرية بصورة أكبر بالجهد التطوعي وكيفية تطوير آلياته، والاستثمار فيه بشكل أكبر، والإفادة من طاقات أفراد المجتمع وخبراتهم وأوقات فراغهم لخدمة مشاريعها وبرامجها الإغاثية والتنموية المختلفة. ومثل هذا الاستثمار يمكن أن يتمّ باجتذاب أصحاب القدرات والمهارات والمواهب الإبداعية والخبرات والتخصصات التي يحتاجها العمل الإنساني، ومنها المجالات الصحية والطبية التي تؤثر على حياة الناس وراحتهم ومستقبلهم، كالأطباء والممرضين والمسعفين، ومن خلال ما يلي: ـ التطوع بالبحث والابتكار: ويكون بالإفادة من أصحاب القدرات البحثية والمخترعين في تصميم بعض الابتكارات التي يحتاجها العمل الإنساني إبان الكوارث وغيرها، وتقديم الحلول العملية لبعض المشاكل التي تعترض العمل الإنساني الميداني، وبحيث يتم دعوة أصحاب المواهب الخاصة لمساعدة الجمعيات كل في مجاله. ـ التطوع بالجهد والخبرة: ففي المجال الطبي والصحي يتبرع الأطباء والممرضون ومساعدو المهن الطبية بأوقاتهم وخبراتهم المهنية في علاج المرضى، وإسعاف الجرحى، والتخفيف من آلام الناس ومعاناتهم من خلال المساهمة والاشتراك في القوافل والمخيمات الصحية والمراكز الطبية الميدانية والمتخصصة، ومثلما يقوم الدكتور الهاجري بالسفر إلى غزة ليخفف من معاناة شرائح الصم، ويستفيد العمل الخيري من خبراته العلمية والعملية المتميزة والمتراكمة، فإن هناك الآلاف من الأطباء مَن هم على أتم الاستعداد للمشاركة بمثل هذه الفعاليات والأنشطة الإنسانية في ما أحسب، حتى في أوقات الأزمات التي تحتاج إلى تضحيات إضافية، ابتغاء الأجر والمثوبة. وفي نفس السياق يمكن أن يستثمر العمل الإنساني طاقات المجتمع في مهام أخرى يحتاجها كالتسويق لاستقطاب التبرعات وإدارة الحملات الخاصة بها، وجهود التعليم والتوعية، وتطوير القدرات والتنمية البشرية، والتدريب والتأهيل.. ولا شك أن مثل هذا الاستثمار من شأنه أن يرفد مؤسسات العمل الخيري بطاقات بشرية، يمكن أن تسهم في تطوير أعمال هذه المؤسسات، وسدّ ثغرات تحتاج إليها، وتعظيم مخرجاتها على المستويين الأفقي والعمودي، والتخفيف من الكلفة التشغيلية التي تحتاجها لتوظيف عمالة متفرغة... فهل آن الأوان للمؤسسات الخيرية أن تعيد النظر في هذه الجوانب وتركز عليها، وتوليها اهتماما أكبر؟ نرجو ذلك.