19 سبتمبر 2025
تسجيلاختزال الزمن والظروف في كبسولات علاجية.. العقل المطلق عقل متخلف لا يرى التضاريس الحقيقية ولا يفرق بين بعضها البعض، والفكر الشمولي الذي يضع الجميع في سلة واحدة فكر متخلف أيضاً، فالعقل المطلق يصدر أحكامه غير عابئ بالتاريخ أو الجغرافيا، فهو عقل لا زمني. فهذه النمطية من التفكير اختزالية لكل شيء «وأنا اقصد بالعقل هنا ليس العقل بيولوجياً ولكن طريقة تفكيره أي العقلية». لننظر الآن الى عدة صور يتجلى فيها العقل المطلق وأحكامه بصورة لا تدع شكاً لدى أحد بأن إحدى مشاكلنا الكبرى هي غياب العقلية النقدية والتفكيكية التي تستطيع أن تعالج الأمور موضعا موضعا دون شمولية تكتسح التفاصيل ولا ترى جزئيات الحقيقة إلا بعد فوات الأوان. من يرى أن الغرب كله شر «عقل مطلق» لا يرى حضارته المشعة، ومن يرى أن أمريكا كلها شر «عقل مطلق» لا يعاين قدرة هذا المجتمع المختلف الأعراق على التعايش وقبول الآخر، ومن يعتقد أن المسلمين كلهم خـير «عقل مطلق» ومن يسمي سقوط برجي نيويورك بغزوة نيويورك «عقل مطلق»، اختزل الزمن في كبسولة ومسح قرونا وأزمانا من التراكم الحضاري والإنساني، من يضفي العصمة على غير الرسل والانبياء «عقل مطلق»، من يضفي القداسة على كتاب او نص غير القرآن «عقل مطلق»، من يرى ان التاريخ حفظ وليس قراءة تفكيكية «عقل مطلق». لا شك أن مثل هذه العقلية تتحمل إثماً كبيراً فيما حصل لهذه الأمة على مر تاريخها القديم والحديث، إن روشتات العلاج الشمولي دون السماح للرأي الآخر بالظهور كانت روشتات تدمير وليس علاجا بأشكالها وعقائدها المختلفة. فنقطة التحول التاريخية في حياة الأمم تضع المستقبل في بؤرتها وأمامها إلا أمتنا التي تستخلص علاجاتها من ماضيها امتهانا للتطور وتصغيراً للعقول وتجميداً للأحداث في قوالبها التاريخية، عندما تخلصت أوروبا من ربقة الكنيسة والإقطاع ورجالاتهما لم تعد ترى في ماضيها حلولاً. نحن عندما أردنا التقدم التفتنا الى ماضينا واخذنا منه عقده المستحكمة في كبسولات مثل كبسولات الدواء التي إحداها «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»، أي جمود بعد هذا وأي استحضار «للعقل المطلق» بعد هذا الاستحضار؟. نعم لقد صلح أول هذه الأمة ضمن شروطه وظروفه التاريخية وبنفس القدر يمكن إصلاح آخر الأمة ولكن ضمن الشروط والظروف الموضوعية المعاشة والمختلفة عن تلك الأولى وهنا تكمن قدرة وقوة العقل التفكيكي والنقدي. ما يزيد الطين بلة ويزيد العقل المطلق بريقاً تحول اللا ممكن الى ممكن في حياتنا العربية، كيف تتحول الجمهوريات الى نمط توريثي تخجل منه حتى أبعد القبائل مسافة عن التحضر؟ وكيف يتحول الفرد الى زعيم أوحد واله يعبد. فلا غرابة إذن أن يُسرق الإسلام تحت فهم معين ويسوق وكأنه الفهم الحقيقي والوحيد الذي جاء به، ولا غرابة أن تتحول أنظمة الحكم الى مافيات تجارية واقتصادية تقتات من دم الشعوب الى آخر هذا المنوال من الخروج عن أسس المنطق السليم. إن الحل الأنسب والوحيد هو في المراجعة الفكرية والعقلانية ومراجعة المطلقات الماضوية والشخوص التي تحولت بعد أزمان الى نصوص ورموز أضيفت وجعلت على نفس المقدار من القداسة من نص الأمة الخالد ورسولها المعصوم. نحن بحاجة ماسة كأمة الى مراجعة ذاتية تضع الأمور في نصابها وتعيد للأمة اتزانها وتخفف من صدى الماضي وتزيد من أهمية المستقبل حيث يكمن المصير وتتكئ العاقبة. [email protected]