12 سبتمبر 2025

تسجيل

قرارات مصيرية

26 يوليو 2022

في حديث ضحى مع والدتي العزيزة كانت تخبرني عن بعض قصص النساء في زمنها وكيف كانت الحياة في تلك الفترة الزمنية وبالرغم من أنها ليست بذاك البعد ولكن لو قارناها بما نعيشها الآن سنجدها شديدة البعد في الأسلوب والمعيشة وقد تظن لوهلة أنها حدثت منذ قرون عديدة إلا أنها حدثت قبل ما لا يزيد على ربع قرن من الزمان، وقد يعود سبب هذا التباين الكبير للطفرة الاجتماعية التي حدثت ومكنت النساء من التمتع بحريات ومسلمات مكتسبة لهن ولكن الطفرة الذكورية في ذاك الزمان كانت بطبيعتها قمعية ديكتاتورية لم تسمح لهن بالتمتع بحرية قرارات في الملبس أو المأكل بل يتجاوز الأمر إلى أنهن لم يكن لهن رأي في نوع الزوج أو الزواج المقبلات عليه. فقد كانت الزيجات عبارة عن تبادل اجتماعي بحت، زوجني أختك لأزوجك قريبتي، أعطني هذا لأعطيك ذاك حيث تم تسليع المرأة في زمننا السابق مما أدى إلى تتابع تلك البرمجية الذكورية على زمننا الحالي، وتناسوا وصية الرسول بالرفق بالنساء مما يدل على عظمتها في ديننا الحنيف وأهميتها في بناء المجتمع، ولكن للأسف الشديد لقد تم توارث العادات والتقاليد الرجعية فقط ولم نتوارث تعامل الرسول مع نسائه. ومن القصص التي روتها لي قصة لفتاة زوَّجَها أخوها من شخص ذي مكانة اجتماعية مرموقة إلا أنه كان كبيرًا في السن، وكان الزواج لا يعد إلا أن يكون صفقة تبادلية للأسف ففي المقابل وعده كبير السن أن يزوجه أخته الجميلة، ولكن ليس الآن بل بعد عام يستطيع من خلاله الأخ جمع المال الكافي مهراً، وبعد عام من الاتفاق شاء القدر أن تحمل الفتاة وتأتي بطفل وحين أتى أخوها لزيارتها تفاجأ أن العروس الموعود بها تم تزويجها لشيخ ذي جاه ومال. غضب! وفي نفس المساء الذي أتى فيه تحدث مع أخته بأن هلم بنا نرحل ! تتطلقين من زوجك الذي لم يفِ بوعده لي، ونترك لهم طفلك لسنا بحاجة لما يربطنا بهم. ولكن الأخت التي لم يكن لها ناقة ولا جمل في الزواج أو الطلاق رفضت فهي مهما حدث ستبقى أما! أم لطفل لم يتجاوز عمره الأشهر. وقالت: "لا لن أرحل بدون طفلي ! ولن يستطيع أحد التفريق بيني وبينه إلا الموت". مما أغضب الأخ الذي رحل بدون أخته أو زوجته المستقبلية، ولا أود أن أصف لكم حجم الخيبة والقهر اللذين شعر بهما آنذاك، وترك أخته الوحيدة في حالة حزن شديد كادت أن تقضي عليها فهي كانت بين نارين، أخيها الوحيد الذي تحب وطفلها الرضيع فلذة كبدها واتصالها الحي بهذا الوجود، تركها بدون أي اتصال في زمن لم تكن فيه الاتصالات متاحة ولا الرسائل المتعارف عليها بل التواصل يكون عبر المراسيل وهم الأشخاص الذين يتنقلون من مكان إلى مكان ويرسل معهم الناس رسالة إلى شخص معين فتُنقل له شفهياً. إن القرار الذي اتخذته الأخت قرار صعب، وكأنها تُخير بين أن تتنازل عن يدها اليمنى أو اليسرى، وهو قرار ليس بالهين ولا السهل ويحتاج إلى تفكير لكن في ذاك الزمان لم تكن رفاهية الوقت موجودة، فالقرارات تُتخذ بلا تفكير مما يجعلها مصيرية في طبيعتها، بمعنى أن رفاهية أن أساوم هذا بذاك غير موجودة، بل يجب أن يتخذ هذا القرار وفقًا للحاجة، والحاجة الأقوى تطغى وتميل لها كفة الميزان على حساب الكثير من المشاعر. ومن القصص التي روتها لي في نفس السياق الفتاة التي زوَّجَها أبوها في صفقة تبادلية مع رجل على أن يزوج الأخير اثنتين من بناته لأبناء هذا الرجل. وشاء القدر أن تتزوج الفتاة من الرجل الكبير وتعيش معه وتنجب منه فتاتين، وبعد أن انقضت المدة المتفق عليها بين الرجل والزوج، جاء الابنان بغية طلب يد البنتين، ولكن الزوج أخبرهما أن ابنتيه لم توافقا على الزواج، وهو أمر مستنكر وغير مقبول للرجال في ذاك المجتمع حيث إن الفتاة عندهم لا رأي لها في تفاصيل الزواج فهي للأسف تُقاد. رجع الأب والابنان إلى مدينتهم بخيبة ورغبة كبيرة في الانتقام، وجاءتهم ابنتهم بعدها كزيارة مع زوجها وطفليها. فتوقف الابنان في وجه الزوج وأخبروه بأن يطلق أختهم وأن يأخذ البنتان معه عائدًا لبلدته. لكن لحظة ! والأم ما ذنبها من هذه الصفقة كلها! ما هو الشيء الذي ارتكبته لتُجازى بهذا الجزاء، لا شيء للأسف إلا لكونها امرأة. هنا لم يكن يوجد قرار لاتخاذه إلا قرار الصمت والصبر وياه ما أشد صعوبة هذا الأمر على أم تشاهد ابنتيها في سيارة راحلة مع أبيهما إلى مكان هي تعلم في قرارة ذاتها أنها لن تستطيع أن تزوره. فحياتها كانت مرهونة في تلك اللحظة إما الموت أو ترك الفتاتين. وكان القرار صامتاً مميتاً ولا أعلم حجم الأشياء التي ماتت فيها ذاك المساء وحجم الخراب الذي خلفه هذا الأمر في ذاتها التي لم ولن تكتمل أبدًا من بعد موقف صعب كهذا. نحن لا نكبر بمرور السنين بل بمرور المواقف والصعاب فالتجارب تشكل ما نحن عليه الآن، فتجد أحدهم يحمل في عينيه ملامح كهل وهو في منتصف شبابه نظراً لما واجهه من صعاب في حياته جعلته بهذا الشكل. فالأخت في القصة الأولي ما زالت تقول وتعيد لم يقتلني شيء مثل ما قتلني رحيل أخي في تلك الليلة وغيابه عني كل تلك السنوات. فهذه القرارات المصيرية حين تُتخذ تأخذ منك طاقة كبيرة، بل قد تستنزفنا أحياء ونحن لا نعلم. ومضة: "لا تعني أرقام أعمارنا شيئاً..! نحن نكبر ونصغر حسب الظروف.. أطفال مع من نحب... شباب مع من ألفناهم.. شيوخ إذا ضاقت بنا الدنيا.. لذلك لا تسأل أحداً عن عمره فذلك لن يفيد.. "نحن نكبر بالظروف والسفر والرحيل والكتب" شيئاً ما يجعل عقولنا تكبر، والآخر يجعل قلوبنا تشيب.