04 أكتوبر 2025
تسجيليترجّل الفارس عن فرسه .. يترك كرسي الحكم وهو في أوج مجده وعطائه ..إنها لوحة مختلفة في زمن عربي ينوء بثقل إصرار كثير من أولي الأمر وأصحاب الكراسي في عالمنا العربي لجهة عدم مبارحتها إلا بالموت الطبيعي، أو بفعل ثورة الشعوب ضد أنظمتهم. كانت خطوة مفاجئة ومؤثرة في نفس الوقت، لن يقف أثرها عند دولة قطر من وجهة نظرنا ، بل ستترك أثرا بيّنا في الساحتين الخليجية والعربية، خصوصا في ظل ثورات الربيع العربي، رغم محاولات البعض التقليل من أمرها، أو الغمز بها ، أو تأويلها وفق أهوائهم المريضة، وأهمية التأثير ترتبط بما يلي: ـ الاعتراف بأهمية التغيير الذي هو سنة من سنن الحياة، بما في ذلك التغيير في مؤسسات الحكم، وأدائها، ومن هنا حرصت الأنظمة الديمقراطية على تخصيص مدد محددة لمن يتولاها، وخصوصا بالنسبة للرؤساء، ووضع سقف لتولي المسؤولية كما في الولايات المتحدة وفرنسا ، فمن أحسن يكفيه عشر سنوات أو خمس عشرة سنة لإعطاء أفضل ما عنده، ومن قصّر فحسب شعبه وبلده تحمل هذا الوزر لنفس المدة. ـ الاعتراف بدور الشباب في القيادة وعمليات التغيير والتطوير والتحديث، بحكم الحيوية والنشاط ، وقدرتهم على مواكبة المستجدات التكنولوجية والاتصالية، والمستجدات المتسارعة في هذا المجال. وقد ربط سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بين مستقبل قطر المنتظر وبين قيادتها الشابّة في خطاب تسليم السلطة لولي عهده الشيخ تميم بن حمد قائلا: "ها هو المستقبل يا أبناء الوطن أمامكم، إذ تنتقلون إلى عهد جديد ترفع الراية فيه قيادة شابة.. تعمل دون كلل أو ملل". ـ ولأن قطر وقيادتها وقفت إلى جوار ثورات الربيع العربي وأيّدت حق شعوبها في التغيير ومقاومة الاستبداد وأشواقها للحرية، فإن الأمير الذي لطالما دعا حكام الدول التي ثارت شعوبها عليها إلى أن تستوعب دروس التاريخ والمتغيرات من حولها ، وأن تستجيب لمطالب جماهيرها سلمياً، قد قدّم درسا عمليا، في تخليه هو عن كرسي الحكم طوعا، من أجل فتح النوافذ للتغيير في بلاده، بعيدا عن الاستئثار المتواصل بالحكم ، أو التقوقع والتكلس والجمود في زوايا معينة. لقد تحقق لدولة قطر في عهد الشيخ حمد كثير من النجاحات والإنجازات في المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية ، مما جعلها تتبوأ مكانة عالمية تفوق حجمها كدولة صغيرة في مساحتها وعدد سكانها، ويكفي للتدليل على ذلك دبلوماسية المصالحات التي قادتها على المستويين العربي والإقليمي، وما تحقق لها على مستوى نهضتها الاقتصادية والعمرانية ، واستثماراتها في مجالات الغاز ، وارتفاع دخل المواطن القطري ، وشبكة قنوات الجزيرة، وتنظيم بطولة كأس العالم لعام 2022 وغيرها . وكان بإمكان الشيخ حمد أن يتكئ على هذا الإرث الكبير من النجاحات ليواصل مسيرته في الحكم ويعززها، خصوصا أنه يتمتع بشعبية قوية داخل بلاده، وعلاقات طيبة خارجها . كم الفرق واسع والبون شاسع بين حاكم كالشيخ حمد يقرر الانسحاب طواعية من الحكم ، دون ضغط شعبي من جماهيره ، أو مدد تحدد بقاءه في منصبه ، أو مانع يحول دون استمراره في مهامه، وبين حاكم مجرم كبشار الأسد ، له ولأبيه من الحكم أكثر من 43 عاما، وجاء في ظروف مريبة ، وتمّ تعديل الدستور زوراً، لتمكينه من الحكم توريثا، في بدعة لم تعرفها النظم الجمهورية من قبل، ومع ذلك فإنه عندما ثار الشعب ضده وطالب بإصلاحات أو بتنحيه عن الحكم ، لم يقم بأي إصلاحات البتة ، وبدلا من ذلك جابه مظاهرات جماهيره السلمية بالرصاص الحي والاعتقالات، واستمر في صلفه ودكتاتوريته وظلمه أكثر من عامين ونصف العام ، ليقتل أكثر من مئة ألف شخص ، ويعتقل مئات الآلاف ويشرد ملايين الأشخاص من شعبه، نازحين ولاجئين داخل بلاده وخارجها، ويدمر البنية التحتية والاقتصاد السوري ، ويفتح الباب على مصراعيه لتدويل الأزمة في بلاده، وترك المجال للصفويين والروس لكي يعيثوا فيها فسادا، إرضاء لمطامعهم التوسعية وأجنداتهم الطائفية. حتى الذين لم تثر شعوبهم ضدهم من الحكام لسبب أو لآخر ، فإن المؤمل أن يفهموا أن للحكم أعباء جساما لا يصح أن يصروا على الاستمرار في توليها، رغم كبر سنّهم أو اعتلال صحتهم ، وهذا موجود بكل أسف. إن قرار الشيخ حمد الذي جاء مفاجئا لكثيرين داخل وخارج دولة قطر لن تكون له انعكاساته داخل قطر من حيث تشبيب القيادة، وعقد الآمال على ضخ دماء جديدة في عروقها، وحصد مزيد من النجاحات التي تنعكس على نهضة البلاد بسبب ذلك فحسب، بل ينتظر أن يترك آثارا لدى شعوب العربية والإسلامية ، لاسيما في ظل الظروف الراهنة، بحيث يكون هذا النموذج ملهماً لها، في مطالبة قيادتها بمزيد من الإصلاحات والتحديث، أو مواجهة مزيد من الضغوط الشعبية عليها مستقبلا حتى تنصاع لذلك.