11 سبتمبر 2025

تسجيل

قصة كفاح

26 يناير 2020

بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، ومليئة بالحزن والأسى، تلقينا، في فجر يوم الثلاثاء 14/‏1/‏2020، خبر وفاة أخي راشد بن علي الكبيسي، نسأل الله له الرحمة والمغفرة. ولد راشد في يوم 11 من شهر يناير لعام 1963 بمستشفى "حمدة". وعندما وصل إلى عمر الثلاث سنوات أصابته حمى شديدة نقل على أثرها للمستشفى، وبعد الفحص أمر الطبيب بحقنة لإنزال درجة حرارته، ولكن الممرض قام بإعطائه الحقنة بالخطأ في عصب الرجل، وكرر نفس الممرض في اليوم التالي العملية، ولكن في الرجل الأخرى، وعلى أثرها شلت الرجلان، وانتقل من طفل سليم إلى طفل مشلول الرجلين. وكنا نعتقد أن هذه الإعاقة مؤقتة فلذلك أخذ الوالد، نسأل الله له الرحمة، أخي راشد إلى لندن طلباً للعلاج، ولكن بعد أشهر وبعد الكثير من المواعيد والفحوصات الطبية تأكد لنا أنه لا علاج له. ومع ذلك لم ييأس الوالد من البحث عن علاج لأخي، فقام بإرساله إلى الهند لمن كان يسمى "ملك العظام"، وطلب مني مرافقته. وفي الهند أجريت له عمليتان في الرجلين، ولكن مع ذلك لم تكن هناك بوادر للشفاء من الخطأ الطبي الذي تسبب في إعاقة دائمة له. الشيء الطيب في شخصية راشد أن هذه الإعاقة لم تمنعه من مواصلة حياته كشخص طبيعي. فكان يلعب مع اخوانه داخل البيت وخارجه، وتعلم السواقة وأخذ رخصة قيادة، وتعلم السباحة. حتى المدرسة لم يمتنع عنها، فقد كان يذهب للمدرسة مع الطلاب في الباص، وكانت مشكلته الرئيسية هي عندما يكون الصف الدراسي في الطابق العلوي، في وقت لم تكن المدارس مجهزة للطلبة ذوي الإعاقات. وتخرج من الثانوية، في 1984، بتقدير عال أهله للدخول إلى الجامعة، ولكنه كان يرغب في تخصص الحاسب الآلي، فتقدم للبعثات بوزارة التربية والتعليم التي وافقت على منحه بعثة خارجية بالولايات المتحدة الأمريكية. ومع أن الوزارة وافقت له بمرافق طيلة فترة دراسته إلا أن المرافق لم يستطع أن يتأقلم مع أمريكا فقرر العودة إلى قطر فكان أمام راشد الاختيار بأن يرجع إلى قطر، أو أن يستمر وحيداً في أمريكا. فقرر الاستمرار وكان له ذلك. وفي 1989 تخرج من جامعة ميتشغان الغربية في تخصص علوم الحاسب الآلي. التحق، بعد رجوعه من أمريكا، بجامعة قطر بمركز الحاسب الآلي. وبعد الوظيفة لم يتأخر في تكوين أسرته وكانت فرحتنا كبيرة في يوم عقد قرانه. بعد أن استقرت به الأحوال بدأ حلم استكمال الدراسة يعود له فقرر الذهاب إلى أمريكا، التي يرى أنها من أفضل الدول المجهزة مبانيها للتعامل مع المعاقين. وفي 1992 وافقت جامعة قطر أن تبعثه إلى أمريكا لدراسة الماجستير. ولكن هذه المرة لم يذهب وحيداً لأمريكا بل أخذ معه زوجته وابنه البكر ورضيعته. وفي 1995 تخرج من جامعة تكساس في نفس التخصص وهو علوم الحاسب الآلي. رجع، وبعد فترة تم تعيينه مديراً للحاسب الآلي بها. وقام بتطوير العديد من البرامج التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم. انتقل، في 1997، لمصرف قطر الإسلامي مديراً لنظم المعلومات والخدمات الإلكترونية. عمل بالمصرف لمدة تسع سنوات، انتقل بعدها لشركة بروة العقارية ككبير المستشارين. وفي فترة عمله ببروة سجل لدرجة الدكتوراة في جامعة هالي فاكس بأمريكا ونال درجة الدكتوراه في عام 2007. انتقل بعدها، في 2010، لشركة الديار القطرية التي استمر بها حتى تقاعده في سنة 2014. وبدءاً من 2010 بدأ يعاني من الرعاف المتكرر ولكن كانت الدماء تنزل قليلة فلم يهتم بها، وواصل حياته كما هي. وفي 2011 أصبح يعاني من نزيف مكثف من الأنف، عندها قرر التوجه لمستشفى حمد لتلقي العلاج الطبي المناسب. وفي المستشفى قيل له إنه مصاب بخلايا سرطانية بالجيوب الأنفية. ولم يكن راشد جزوعاً فقد استقبل الخبر بابتسامته المعهودة ولم يقل سوى "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وقرر البدء بالعلاج. وافقت اللجنة الطبية على إرساله لأمريكا ولكنه رفض، وقرر تلقي العلاج بمستشفى الأمل بقطر. استلم الملف الطبي الدكتور الحارث الخاطر المتخصص بالأورام السرطانية، وبدأت رحلة العلاج الكيماوي والإشعاعي القاسي ولكنه تحمل كل ذلك ومع تغير لون بشرته واحتراقها من الإشعاعات إلا أنه كان يستقبلنا، عندما نزوره بالمستشفى، بابتسامته بدون إصدار أي ألم أو أنين بعكس ما كنا نسمعه من المرضى الآخرين بالمستشفى. وفي 2012 تم شفاؤه شفاءً تاماً من السرطان. ومع ضعفه الجسدي من العلاج إلا أنه بدأ يمارس حياته بشكل طبيعي. وتمر السنين وفي 2018 رجع إليه مرض السرطان الخبيث ولكن هذه المرة أشد فتكاً. قررت اللجنة الطبية إرساله لأمريكا لتوفر علاج جديد غير معمول به بمستشفى الأمل. وفي هيوستن بأمريكا بدأت رحلة العلاج، وبدأت المعاناة من جديد، ولكنها كانت أشد قسوة مما سبق. الشيء المستغرب أنه في هذه المرحلة، ومع استمرار تلقي راشد العلاج داخل المستشفى بأمريكا، قررت اللجنة الطبية، التي تعمل من قطر، قطع العلاج الطبي عن راشد، وتأمره بالرجوع لقطر. ذهبت شخصياً للجنة وبينت لهم أن راشد لم ينتهي من العلاج وأنه لا يزال بالمستشفى، ولكن اللجنة الطبية أصرت على موقفها على رجوعه قبل إنهاء العلاج. رفعت الموضوع لسمو الشيخ عبدالله بن حمد آل ثاني، نائب سمو أمير دولة قطر، فما كان من سموه إلا أن تفهم الوضع وأمر بمواصلة علاج راشد. وتعود اللجنة الطبية مرات أخرى وتقطع العلاج عن أخي راشد وفي كل مرة يتدخل سمو نائب الأمير مشكوراً ويأمر بمواصلة العلاج. إن اللجنة الطبية، كما أعتقد، كانت تمارس، بمثل هذه التصرفات، نوعاً من الإرهاب وفقدان أي احساس بالإنسانية، فكيف تحرم مواطناً من العلاج وهي التي قامت أصلاً بإرساله. وبعد مرور سنة وشهرين وجد الأمريكان أن راشد قد تجاوز كمية العلاج الاشعاعي المفروض أن يتحملها الجسم البشري فقرروا وقف العلاج وإرساله ليقضي ما تبقى له من العمر بين أهله. وفي الختام عاش راشد، في فترة لم يكن هناك أي معاملة خاصة ولا مبان معدة لذوي الإعاقات، عيشة طبيعية، ولم أجده في يوم من الأيام يشكو حاله، بل على العكس كان صاحب روح مرحة، يتلذذ بوجود الناس من حوله، ولا يتأخر في مد يد المساعدة لأي محتاج. ولهذا عندما أعلن عن وفاته حزن الجميع، ووجدنا أعداداً كبيرة منهم يسارعون بالذهاب لمسجد مقبرة مسيمير للصلاة عليه، سائلين رب العالمين أن يقبل دعاؤهم وشفاعتهم له. وبدأت وفود المعزين تأتي لتقديم واجب العزاء، وكان على رأس المعزين سمو الشيخ عبدالله بن حمد آل ثاني ومعالي الشيخ عبدالله بن ناصر آل ثاني. وفي هذا المقام أتقدم بالشكر والعرفان لسمو الشيخ عبدالله بن حمد آل ثاني لوقوفه مع أخي راشد في تلك الأزمة، والحمد لله أن رزقنا الله قيادة تحبنا ونحبهم. وأشكر كذلك سكرتير سموه الخاص السيد عبدالرحمن بن محمد المناعي لسؤاله المستمر، وتذليل كل الصعوبات التي واجهها أخي راشد في فترة علاجه. أما الذين لا أشكرهم فهم اللجنة الطبية التي تضع العراقيل أمام المرضى الذين لم يستكملوا علاجهم. أسأل الله العلي القدير أن يجعل ما مر به راشد كفارة له وأن يدخله جنته مع الشهداء والأبرار. والله من وراء القصد،، [email protected]