19 سبتمبر 2025
تسجيلتهمني الطبقة الوسطى كوجود مادي، بقدر ما تهمني ثقافتها كعامل اتزان في المجتمع؛ نحن نتجه اليوم نحو مجتمع بلا طبقة وسطى تماماً. كتبت مراراً وتكراراً منذ عدة سنوات عن تلاشي هذه الطبقة رويداً رويداً، وأكتب اليوم كي أنعيها. الثقافة السائدة اليوم هي ثقافة الدولة بانفراد، لذلك نرى ثمة عسكرة للذوق العام ابتداءً من القصيدة إلى اللحن إلى النشيد إلى الأداء. نقدر ظروف البلاد ونقدر ما يُحاك ضدها من مؤامرات، ولكن في نفس الوقت قطر انتصرت لم يعد الحصار يمثلُ عائقاً أو سبباً في تجييش الذوق العام، واقتصار الثقافة على مهرجانات وحشد احتفالي. ما نراه ليس دليلاً على صحة المجتمع؛ لا أثر للطبقة الوسطى وثقافتها فيه البتة؛ ناهيك عن تلاشي وجودها المادي الملحوظ. أثناء الحصار حصلت عملية تآكل واضحة لهذه الطبقة سواء التحاقاً بالطبقة العليا أو تركاً لسقوط متدرج نحو الأسفل. الذوق العام في المجتمع في خطر نظراً لتبعيته لنمط العلاقات السائدة حالياً، الطبقة الوسطى كلما اتسع حجمها، أصبحت العلاقات أفقية؛ وهذا مؤشر صحة للمجتمع، وكلما تناقص حجمها جرى سحب هذه العلاقات وشدها إلى أعلى تبعاً للمصلحة على حساب العلاقة الإنسانية. الطبقة الوسطى كلما اتسعت، حافظ المجتمع على قيمه وأخلاقياته؛ وكلما تلاشت، خسر ذلك المجتمع. الطبقة الوسطى كلما وجدت وجد التسامح.. اليوم مجتمعنا يتجه نحو التشدد مع الأسف في علاقاته؛ الضغط السكاني جاء على حساب هذه الطبقة وعمل على تفتيتها وإضعافها نظراً لأنها أصلاً حكومية المنشأ، فأحالتها الحكومة إلى التقاعد. مكان الطبقة الوسطى الوطنية ليس المولات وإنما الجامعات والمدارس ومراكز الأبحاث.. الطبقة الوسطى هي الرافد الحقيقي للانتخابات القادمة؛ المهندس، أستاذ الجامعة، المدرس و الصحفي......، إذا كانوا من رواد المولات الدائمين من أبناء هيئة التقاعد فأي برنامج سيحملون غداً إلى المقاعد. نحن أمام تحدٍ كبير؛ كأس العالم، صحيح لكن نستقبلها بقاعدة عريضة من أبناء الطبقة الوسطى المتمكنة لأنها مناسبة وظرف، وبناء البلد ديمومة واستمرار، الذي ينهار ويتلاشى اليوم ليس هو البناء وإنما الطموح.. أبناء الطبقة العليا ومن سلك مسلكهم من الأيقونات اكتمل طموحهم، وما تبقى ليس سوى طمع، وأبناء الطبقة السفلى يحملون فقرهم خالياً من كل مايمكن أن يقدموه للوطن. المحافظة على الطبقة الوسطى سيحفظ لهم الذوق العام، وسيحفظ للمجتمع ذائقته الفنية التي افتقدناها مع رحيل عبدالعزيز ناصر وحسن علي. وجود الطبقة الوسطى سيحفظ للناس علاقتهم الطبيعية، وسيعمل على تخفيف درجة التشدد التي أراها في تزايد واضح، حيث يتعامل الفرد هنا مع مرجعيته الأولى لعدم وجود طبقة وسطى ثقافية تعفيه من ذلك. قيم المجتمع في خطر، ذائقة المجتمع في خطر، وسطية المجتمع في خطر، الجانب الإنساني في المجتمع في خطر لتغول المادة بشكل مخيف، لا نريد أن نجد أنفسنا وقد تحولنا إلى مجرد أشياء ومبانٍ وناطحات سحاب، وخسرنا الإنسان. انتبهوا أيها السادة، الطبقة الوسطى صمام أمان لوسطية المجتمع، صمام أمان لقيادته، صمام أمان لثقافته ولهويته. اليوم يعيش أفراد هذه الطبقة بين الخوف من السقوط المادي والسقوط الثقافي، وهو أخطر حيث سيفقد المجتمع ثقافته الوسطى التي اشتهر بها، ومن هنا يتسلل الخوف على المصير. [email protected]