10 سبتمبر 2025
تسجيلبدأت عطلة أعياد الميلاد وركبت الطائرة عائدة من عاصمة الضباب إلى الدوحة، والشوق يسبق خطوتي إليها، ففي البعد نتعرف إلى بعض معاني الكلمات التي قد تمر بحياتنا مرور الكرام، مثلما تعلمت معنى كلمة حنين..مرادفها من كلمات، فلطالما رددت ما قاله شاعرالمهجر إيليا أبو ماضي حين قال: ليس بي داء ولكني أمرؤ لست في وطني ولا بين صِحابي. فقد قضيت بضعة أشهر بعيدة عن وطني وعمن أحبهم، وقد اشتقت كثيرا، فرغم كل وسائل التواصل التي قربت بين الناس وجدت أنها عاجزة على أن ترضيني أوتحبط من قوة مشاعر إشتياقي إلى وطني وأهلي ومن أحب، بل ربما جعلتني أشتاق لهم أكثر. ففي كل يوم يزيد اعتقادي بأن المشاعر التي ترتبط بالعودة أقوى وأمتع كثيرا من المشاعر التي ترتبط بالإرتحال إلى أي مكان. فما فكرة النفي من الوطن إلا عقوبة من أقسى العقوبات، حين يصدر حكم على الإنسان بعدم العودة والحنين مدى الحياة، ومنهم من قد يرحل عن الحياة متأثرا بجراح الشوق والحنين. ارتفعت بنا الطائرة وغاصت في الضباب، ثم رأيت الشمس فقد إشتقت لأشعة الشمس أيضا، وكعادتي أخذت أقلب في وسائل الترفيه عما يقطع الوقت، ولذت بالقراءة كي أهرب من الذكرى، ومن دموعي التي زحفت من نوبة ذكرى هاجمتني بشراسة، ووجدت أن شوقي للراحلين أكبر كثيرا وأعظم من أي مشاعر، تراءت أمامي صورا كثيرة وتذكرت أنني أعود لوطني ولكني لن أرى أمي وأبي يستقبلاني بفرحة اللقاء والشوق، وتوالت أمامي ذكراهما وكأن الدنيا كلها وصخبها وضجيجها عاجزة على أن تجعل صورة أمي وأبي صامتة في داخلي، تخيلت أنني وصلت إلى البيت فوجدتهما ينتظران كعادتهما وأمامهما التمر والقهوة، تخيلت عيونهما والشوق الذي يطل منها وتذكرت عتابهما وكلمات الشوق حين نغيب ولو لأيام قليلة، وأقل غياب هو في نظرهما غياب لا مبرر له يجعلهما في حالة إشتياق. تخيلت لو أن لكل مسافر تعبر طائرته الفضاء أمنية غالية يستطيع تحقيقها بمجرد وصوله، وتخيلت أن تكون أمنيتي أن أعود إلى بيت والدي فأجده هو وأمي ينتظراني كما كانا يوما، وتخيلت أنني أحتضنهما وأعبر لهما عن فيض حنيني، وكم آلمني رحيلهما. وإنحدرت دموعي بقوة حينما إنتهيت من خيالاتي، وتذكرت أنهما وطن داخل الوطن، وإنني عائدة للوطن ولن أجدهما. ما أسوأ الغياب وما أقساه، فما أروع الشعور بأن هناك من يشتاق إليك، ومن يعنيه حضورك، ينتظرك بلا مقابل، لمجرد الحب والعطاء غير المشروط. لا شك أننا نخسر كثيرا حين يرحل عنا من كان يعطي حياتنا ووجودنا بعدا آخر. إقتربت الطائرة من الدوحة، ورأيت خطوط الطرق والبيوت البعيدة، وتذكرت أن الكثيرين ممن أحب مازالوا ينتظرونني بشوق، مثل شوقي للقائي بهم، وشعرت بلهفة لأن تطأ قدمي أرض وطني، فما زال فيه الكثير من الحب..