12 سبتمبر 2025
تسجيللم يعد هناك مصدر للاخبار فى هذه الايام ،الا وثائق ويكليكس ،التى اصبحت بديلا لوقائع الاحداث التى هى مادة الاخبار والمتابعات الاصلية .كل وسائل صارت وثائق هذا الموقع الاليكترونى بندا اساسيا فى نشراتها وبرامجها وتحليلاتها .ويمكن القول ،بان الولايات المتحدة نجحت فى تقديم ما يجرى فى العالم ،من خلال وجهات نظرها عبر موقع ويكيليكس الذى ينشر رؤية الديبلوماسية الامريكية للوقائع الجارية فى العالم ،ويروجها على اوسع نطاق ،حتى اصبحت الرواية الامريكية بديلا لكل الرايات وصارت تبدو هى الواقع ،بحكم عدم وجود روايات اخرى لما هو وارد فى الوثائق . وفى الايام الاخيرة ،دخلت الوثائق ، الى ساحة القضية الفلسطينية بعدما كانت الوثائق الاولى والثانية قد انحصرت فى وقائع احداث افغانستان والعراق .وهذا الدخول على مساحة القضية الفلسطينية لاشك ينذر بمخاطر شديدة .لقد ظلت المواقف الامريكية من تلك القضية بلا تصديق وبلا صدقية فى اعين الراى العام العربى وربما العالمى ،ويبدو دور ويكيلكس الان هو اعادة رواية الاحداث من خلال وجهات النظر الامريكية لتجميل المواقف الامريكية وتغيير الرواية العربية للاحداث وفى ذلك محاولة لتغيير الوقائع وتثبيت رواية امريكية لها لا شك ستكون بمثابة دعاية للمواقف الامريكية والاسرائيلية فى الخلاصة النهائية .وفى اول الوثائق حول القضية فان المخاطر لم تصل الى منتهاها بل نحن هنا امام اول العينة ،وكما يقال العينة بينة . العينة جاءت هذه المرة عبر كشف احدى البرقيات الدبلوماسية الأميركية التى تقول أن مسؤولاً كبيراً بوزارة الدفاع الإسرائيلية توقع ألاّ يصمد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس سياسياً حتى نهاية عام 2011.والبرقية عبارة عن سرد لمحضر اجتماع بين السفير الأميركي ألكسندر فيرشبو مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية ومسؤولين إسرائيليين على رأسهم رئيس القسم السياسي والأمني بوزارة الدفاع عاموس جلعاد.وتتحدث عن قلق اسرائيلى حول مستقبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس ،وكانها تريد القول بانها حريصة على بقاء سلطة عباس ،بما يعنى ان الرجل ووجوده وسلطنه هى فى نهاية المطاف امر تحرص عليه اسرائيل . وللوهلة الاولى ،يبدو ما هو منشور فى الوثيقة ليس الا مجرد كشف لما هو مخفى فى اقبية الدبلوماسية ،كما يبدو فى الظاهر ايضا ،وكانه عمل بطولى فى سبيل السعى لكشف الحقائق ،وهذا وذاك ياتى ضمن الهالة التى يجرى احاطة موقع ويكيلكس بها .غير ان الحقيقة مختلفة عن كل ذلك بل هى حقيقة مرة ،فهذا النشر لا يجرى الا خدمة للمخطط الاسرائيلى ،بل هو ياتى فى لحظة ومرحلة محسوبة بدقة ،وليس مجرد نشاط اعلامى لتحرى الحقيقة وكشف المستور كما يروج فى هذه الايام لكل ما ينشر على موقع ويكيلكس.ويمكن الزعم باننا امام طلقة بداية لتنفيذ مخطط اسرائيلى لاطاحة سلطة عباس وليس تهديدها فقط . البعض قد تصيبه الدهشة من مثل هذا القول ،خاصة اولئك الذين يتحدثون بان سلطة عباس تمثل الوضع النموذجى لحالة الاحتلال بلا تكلفة ولوضع فلسطينى ضعيف ومنقسم ،يسمح لاسرائيل لانفاذ كل مخططاتها بلا مقاومة خاصة فى ظل التنسيق الامنى بين اجهزة السلطة الامنية والاجهزة الامنية والجيش الاسرائيلى ،الذى يؤدى الى اعمال اغتيال وقتل وحصار للمقاومة الفلسطينية للاتحتلال الاسرائيلى .ويزيد من هذا الشعور بالدهشة ان الوثيقة تتحدث بالفعل بلغة قلق اسرائيلى على بقاء واستمرار سلطة الرئيس عباس ،فكيف يقال ان نشر هذا التخوف هو طلقة البداية لمخطط انهاء تلك السلطة ! واقع الحال ،ان المخطط الاسرائيلى الحقيقى لا تمثل فيه السلطة الفلسطينية بكل دورها المشار اليه ،الا حالة مؤقتة طال بقاؤها او قصر ،واذا كان بالامكان القول بان رؤية عرفات لبناء السلطة وفق اتفاقات اوسلوا جرت وفق نظرة ورؤية لها باعتبارها حالة مؤقتة باتجاه وفى طريق بناء الدولة الفلسطينية ،فان اسرائيل من الاصل لم تنظر بدورها لتلك السلطة الا باعتبارها مؤقتة هى الاخرى ،وانها جاءت فى مرحلة زمنية تنتهى بنهايتها او بتحقيق اهدافها. تبدو اسرائيل الان وقد شارفت على استنزاف اغراضها من السلطة الفلسطينية –بل عن كل اتفاقات اوسلو -ولم تعد تعمل على اضعاف تلك السلطة وشل قدراتها وانهاء احتمال تحولها الى سلطة دولة مستقلة ،بل صارت قاب قوسين او ادنى من انهاء وجود تلك السلطة وكيانيتها ،والاغلب ان ذلك سيجرى وفق مخطط لاثارة الفتنة من نوع اخر او وفق طريقة وسيناريو اخر فى داخل الضفة الغربية ،وربما يمتد الامر ليشمل غزة فى ذات الوقت ايضا. وهذا هو جوهر ما ورد فى الوثيقة التى نشرها موقع ويكيلكس وجوهر اختيار توقيت النشر. منذ بداية اوسلو والصراع الاستراتيجى بين الحركة الوطنية الفلسطينية وامتدادها العربى الاسلامى من جهة واسرائيل والولايات المتحدة وامتداهما الغربى من جهة اخرى ،قد اخذ منحى جديد اذ بات يدور فى ملخصه العام ،حول دور ومكانة ومستقبل السلطة الفلسطينية التى كانت راس تاج مرحلة ولعبة ونتائج التفاوض وتوقيع اتفاق اوسلو . الحركة الوطنية الفلسطينية من بعد نطبيق اتفاق اوسلوا دار ملخص نشاطها وحدثت التباينات فى داخلها حول افق السلطة التى اصبحت هى الواقع الجديد فى ساحة الوضع الفلسطينى وعلى ساحة الصراع بين اسرائيل والشعب الفلسطينى وعلى الصعيد الدولى هى صارت بديلا حتى لمنظمة التحرير الفلسطينية ،وقد زاد من اهميتها دخول حركة المقاومة الاسلامية حماس الى داخل السلطة ورئاسة حوكمتها ما بعد الانتخابات الفلسطينية التى اعقبت رحيل عرفات .انقسمت الحركة الوطنية الفلسطينية بشان مستقبل هذه السلطة بين تيارين ،الاول راى ان افق السلطة هو افق بناء الدولة المستقلة وانها تمثل نهاية مطاف الصراع واعتمد فى ذلك اسلوب الضغط السياسى والديبلوماسى وقدر محدد من الاستعانة بالعنف الحركى الفلسطينى وهو قد تمثل اساسا فى تيار حركة فتح .والتياار الثانى نظر للسلطة كمحطة انتقالية ونقطة ارتكاز وغطاء لفكرة المقاومة وسعى لتطويرها باتجاه تحقيق الهدق الاستراتيجى الفلسطينى فى تحرير فلسطين كل فلسطين . غير ان تيارا اخر او جديدا قد ،ولد فى الساحه الفلسطينية ،كان خلفه نشاط اسرائيلى وامريكى ،هذا التيار –اذا جاز الوصف-نظر الى المقاومة الفلسطينية كقوة تخريب لجهوده السياسية والديبلوماسية واعتبر السلطة وحركتها اتجاه اخر لا يمت للعنف بصلة ويرفض المقاومة ،وهو ما احدث الشقاق فى داخل الحركة الوطنية الفلسطينية على نحو حاد .لقد كان عرفات صاحب رؤية جامعة للسلطة والمقاومة بطريقة او باخرى ،غير انه واجه فى اخر ايامه فى السلطة والحياة ظهور هذا التيار الذى طرح رؤية للسلطة تحتلف عن رؤيته وتطالبه باعتماد خط سلمى والتخلى عن كل مظاهر العنف ومطاردة الكقاومة ووصفها بالارهاب . وفى الاتجاه الاخر ،نظرت اسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموما لتلك السلطة باعتبارها اداة وظيئفية تصب فى خدمة المشروع الاسرائيلى وتؤدى دورا فى خدمة الخطط الاستراتيجية الفلسطينية لا اكثر ولا اقل .لقد كانت هناك اتجاهات عدة فى داخل الدول الغربية لمشروع بناء السلطة .بعض الغربيين راها وسيلة لحل النزاع وفق افضل الشروط لاسرائيل ،وفى ذلك كانت اوروبا صاحبة الراى ،اذ نظرت للسلطة كاداة تطويع للارادة الفلسطينية وتشكيل من نخبة يمكن التعاطى معها للوصول الى حل يحافظ على بقاء اسرائيل وحمايتها ،وبذلك يتحقق قدر من الاستقرار يحقق المصالح الاوروبية فى منطقة الشرق الاوسط. هذا الراى والرؤية الاوروبية ،تعارضت مع الرؤية الامريكية والاسرائيلية -من الاساس -التى رات ان السلطة ليست الا غطاء مرحلى يحقق السيطرة الاسرائيلية على كل الاراضى الفلسطينية ويخلص اسرائيل من تبعات الاحتلال العسكرية والسياية والاقتصادية ،وان المهمة الرئيسة لها هى القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية حتى تصل اسرائيل الى حالة سيطرتها على الارض الفلسطينية بالاستيطان والتهويد ،وعندها يتم الاستغناء على السلطة سواء بخنقها النهائى او باظهار زعامات محلية قبلية وجهوية ،تجهض قوة السلطة وتكون بديلا لها ضمن اطار فكرة ومشروع الكانتونات الصغيرة فى الضفة . وبين هذا وذلك جرت تطورات كثيرة ،اذ حدث خلاف امريكى اسرائيلى ،بسبب التدهور الحاصل فى اوضاع الولايات المتحدة فى الشرق الاوسط فى ظل انغماس جيشها مباشرة فى اعمال عسكرية ،بما جعل الولايات المتحدة تميل الى النظرة الاوروبية الداعية الى تشكيل دولتين باعتبار ذلك هو افضل الحلول لبقاء اسرائيل ،وان السلطة الفلسطينية هى الاساس الذى يمكنه تحقيق معادلة بناء دويلة فلسطينية هزيلة فى ظل بقاء وقوة وهنا يبدو ان هذا التغيير فى الممواقف الاوروبية والامريكية صار احد اسباب التعجيل الاسرائيلى بانهاء وجود السلطة . هنا يمكن القول بان الحركة الوطنية الفلسطينية ورغم تمايزاتها وصراعاتها –العنيف منها والسياسى والشعبى-قد نجحت على نحو او اخر وفى المحصلة العامة ،فى تغيير الفكر والرؤى والاستراتيجيات الغربية ،غير انه يمكن القول ايضا ،بان الطرف الاخر نجح فى زلزلة اوضاع السلطة وجعلها تعيش مازقا خطيرا .من جهة يرى البعض ان محصلة جهود ونشاط السلطة على صعيد المواجهة على الارض الفلسطينية كانت سلبية وضارة بمصالح الشعب الفلسطينى ،ويعتبرها ستارا لاستمرار خطة التهويد والاستيطان وان هذا هو الفعل الاخطر،اذ تمكن الطرف الاخر من استغلال لعبة التفاوض لانجاز مشروعه على الارض بفرض الوقائع .ومن جهة ثانية يقول هؤلاء بان السلطة تحولت الان الى واجهة صدام فى وجه المقاومة الفلسطينية وحائط صد فى مواجهتها وانها بذلك تحولت من اداة فلسطينية الى اداة اسرائيلية خاصة وان الاحتلال لم يعد مكلفا لاسرائيل ،اذ صارت اوروبا من يدفع لبقاء السلطة ولاداء دورها . غير ان هناك من يرى ان الحاصل الان من تعدد حالات الاعتراف الدولى بالدولة الفلسطينية على حدود عام 67 ليس الا نتيجة لجهود السلطة سياسيا وديبلوماسيا ،وان بعض اشكال المقاومة التى جرت هى من اضر بدور السلطة ونشاطها وادائها بما سبب لها من احرج ،وبما ادى الى تغييرات فى مواقف بعض المتعاطفيين دوليا وعربيا مع القضية الفلسطينية . وهنا تاتى خطورة ما نشره موقع ويكليكس من عدة زوايا .اولها ،ان الموقف الاسرائيلى الوارد فى الوثيقة الامريكية يشير الى احتمال حدوث انهيار فى السلطة فى وقت بدا الاعتراف بالدولة الفلسطينية يتوسع ويتعمق ،وهو ما يعنى ان الاعتراف بالدولة الفلسطينية سياتى مترافقا مع عدم وجود سلطة يعترف بها رسميا ،اذ الاعتراف بدولة ما يشترط وجود سلطة تمثل الشعب والدولة التى يجرى الاعتراف بها . وثانيها ،ان ما نشر يؤكد بطريقة او باخرى على ان اسرائيل تفتح الباب امام صراع فلسطينى-فلسطينى وتدفع باتجاهه ،اذ البعض سيجد فى مثل تلك الفكرة المشار اليها ،اعلان اسرائيلى بعدم قوة وقدرة السلطة وبعدم التمسك بها ومساندتها ،بما قد يدفعه للتحرك ضدها لاسقاطها ،وكم من مواقف عربية جرى اتخاذها وفقا لمنطق اخلاء الطريق امامها من قبل الاعداء ،فلما جرت تحولت مواقف الاعداء من اخلاء الطريق امام احد الاطراف الى اصطياده (واقعة دخول القوات العراقية للكويت ) . وثالثها ،اننا امام مخطط اسرائيلى كبير قد يكون عنوانه الاولى ،فتح الطريق امام قوى فلسطينية لانهاء وجود السلطة فى الضفة ،لكن عنوانه الاكبر سيكون ادخال الضفة الغربية فى حالة احتراب كاملة ،تساهم هى فيها بالتحريض وتهيئة الارض للصراع فى البداية وتنتهى الى اعمال ابادة وقتل وتطهير عرقى للشعب الفلسطينى وفرض حصار شامل وبدء اعمال طرد الفلسطينيين من عام 48 الى الضفة ومن الاراضى المحتلة عام 67 الى الاردن ،وربما يكون واردا هنا الاقدام على الخطوة المتوقعه بهدم المسجد الاقصى وسط دوامة الاحداث ،اذ لم تكن مصادفة ان يتحدث قادة امنيين اسرائيليين منذ وقت قريب مضى عن احتمال انهيار المصلى المروانى بسبب كثافة اعداد المصلين . والخلاصة هى ان انهاء السلطة ودورها قد اصبح هدفا اسرائيليا فى الطريق للتحقيق الان ،بغض النظر عن طبيعة الاحداث الداخلية الفلسطينية وبغض النظر عن دور السلطة السابق ،اذ ان عدم وجودها الان هو ما يحقق اهداف المرحلة الراهنة من الخطة الاسرائيلية .وان ما نشره موقع ويكليكس لا يخرج عن تحقيق الاهداف الاسرائيلية بل هو فى صميم تلك الاهداف ،اذ هو ترويج ودفع للصراع الفلسطينى –الفلسطينى ،الى افاق اخرى تجعله فى صلب المصلحه الاسرائيلية على الصعيد المباشر الان –وهنا يبدو من المناسب الاشارة الى بدء تحرك العقيد محمد دحلان ضد سلطة عباس بنفس الطريقة التى تحرك بها ضد سلطة عرفات -وان هذا النشر هو مقدمة اختبارية لاحداث كبرى ستجرى على ارض الضفة الغربية .وان واجب الحركة الوطنية الفلسطينية ان تتنبه الى تلك الاهوال المقبلة كل من موقعه .حركة المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها مطالبة الان باليقظة وبالتفرقة بين مواقفها ورؤاها للسلطة ومراراتها منها ، وبين المخطط الاسرائيلى الذى سيجرى تنفيذه فى الوقت الراهن .