20 سبتمبر 2025
تسجيلإنه لا يتحرك، لا يفيق، جسمه بارد، اطلبوا الإسعاف. مؤشراته الحيوية لا تعمل، قلبه فقط ينبض ببطء، لا إشارات تصل إلى المخ، سننتظر بعض الوقت "الطبيب". تجمع الأهل بدأ القلق يزداد، أعلن الطبيب الوفاة، بكاء هنا ودعوات هناك، حددوا موعد الدفن بسرعة "إكرام الميت دفنه". أقيموا سرادقا للعزاء، انشروا في الصحف الخبر "توفى فلان عن عمر جاوز" "الدفن في مقبرة" " العزاء في السرادق المقابل لمنزله. في المسجد تجمع المصلون من أصدقائي وأحبائي ومعارفي وآخرين جاءت بهم ظروف الدنيا، وقف الإمام يكبر، أرى وجوه المصلين واحدا تلو الآخر هؤلاء أبنائي وعلى وجوههم الحزن يرسم خارطته، وهذا صديق قديم لم أره منذ زمن يبدو عليه التأثر، وبجانبه شخص لم أكن معه في الدنيا على ود، بل كان يكرهني، هناك في آخر الصف شخص كبير في السن كان يعمل فراشا في الشركة التي كنت أعمل فيها ساعدته مرة، إنه يبكي، خادم البيت عندي يبدو متأثرا وربما خائفا أن يستغني عنه الأولاد بعدي، أرجو أن لا يفعلوا ذلك. في الصف الآخر هناك شخص تشاجرت معه كثيرا لأسباب دنيوية بسيطة كنت أظنها هامة في وقتها، ليته يسامحني، الحمد لله أرى من كنت مديونا له فيما مضى حاضرا ويدعو لي كثيرون ممن تغيب كنت أظنهم سيحضرون، لعلهم كانوا مشغولين أو شغلتهم الدنيا رغم أهمية اللحظة بالنسبة لي، كثير من الحالات شغلتني الدنيا عن حضور صلوات الجنازة مثلهم، لم أستشعر ذلك إلا الآن. أستشعر الآن تقصيري في صلة الأرحام، أشعر بعدم صدقي أحيانا مع الجيران، ليتني حافظت على شعرة المودة، ما استطعت مع الجميع، الناس حولي اليوم شهداء الله على عملي وإخلاصي، بودي لو كان الجمع أكبر يملأ الدنيا، أحتاج اليوم كل دعوة ترتفع الى السماء، أحتاج الى كل كلمة تزيل ولو بوصة من ظلام القبر، أشعر أنني دخلت من هذا الباب وخرجت من الباب الآخر، لم يكن الأمر يستاهل كل ذلك، لم يكن الأمر يستاهل أن أصاب بالضغط ولا بالسكر خوفا على الرزق وطلبا للمنصب، لم يكن الأمر يستاهل أن أنافق ضعيفا مثلي يُحمل على نعش ملفوفا بخلقة بيضاء كما حُملت، أشعر أن الطريق بين البداية الى النهاية مستقيم، كما أراه الآن، لا كما كنت أظنه أثناء حياتي، انتهت الصلاه تفرق الجمع إلا قليلا ممن كنت أسكن قلوبهم، يحملونني إلى بيتي الأخير ويهيلون عليّ التراب، خطاهم تبتعد، همسهم يتلاشى، سراب الدنيا يختفي، غفلة الدنيا تزول كما يزول الضباب أمام إشعاع الشمس حقيقة النظر وقوته تقوى في عالم الكشف، لطف الله يلف المكان ورحمته تسع الزمان.