23 سبتمبر 2025
تسجيللا يُجزعنا الموت ولا يثنينا عن استمرارية الحياة وعمارتها ، ننتظره ، فهو إلينا أقرب من حبل الوريد، مهما بلغنا من العمر عتيا سنرحل، ومهما ملكنا من كنوز الدنيا ما تنوء من حمله الجبال ومن قصورها وبساتينها سنغادرها ، ومهما كنا في بروج وحصون مشيدة سيدركنا ، نؤمن أن الموت حق وأنه، لكل أجل كتاب ، ولكل إنسان نهاية . منذ صغرنا تعلّمنا من آبائنا ومناهجنا بأن الموت قدرٌ إلهيّ مكتوب ، وحين اكتملت عقولنا تفهّما ًووعياً أدركنا بأن الدنيا هي مزرعة الآخرة فما نحصده فيها من قيم نبيلة وأخلاقيات وسلوكيات وأعمال صالحة سنحصده فيها . فالتاريخ الإسلامي والعربيّ يحفل بنماذج إنسانية ما زالت باقية بآثارها وسيرتها لا يسعنا ذكرها ، لكن من يرحل قبلنا يؤلمنا ليس لرحيله وهو عند الخالق الأعظم الذي ينتظر أمانته وفِي مكان أفضل، ولكن لفراقه الأبديّ الذي يترك في نفوسنا غصّة تدمي قلوبنا. وبين جلساتنا وحواراتنا وأماكننا فراغاً كبيراً نبحث عنه بين جموع المعزّين وصمتهم ، لا يمكن ردمه إلا بذكــره الطيب وبأعمالـــه الصالحــــة وبعطائـــه للخــير. …. فالموت ليس النهاية بل هو بداية لحياة أزلية لا يدرك مكنونها إلا الله قائمة على قوانين وأسس إلهية غيبية ، وصدق الله العظيم: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين) . بالأمس القريب وبالتحديد 15/ نوفمبر 2018 رحل من بيننا الأخ الفاضل والأب الحاني الدكتور أحمد محمد العبيدان رحمه الله في موعد مع القدر الإلهي لم يمهله المرض أياماً قليلة تسارع في جسده ليقف عند نقطة الرحيل وينتزعه من بيننا بضحكاته وحديثه وآهاته وألمه. بدموع حارقة وصدمة مؤلمة ليواجه ربه وهو القائل سبحانه : (إنَّا لله وإنا إليه راجعون) رحل كغيره ممن سبقه إلى العالم الآخر من رجالات قطر الذين مازال صيتهم ومعانيهم النبيلة وعطاؤهم المتفاني تجسّدها ذكرياتهم المستمرة وكأنهم مازالوا يعيشون معنا. وما هذه الجموع التي توافدت على قبره وتعزية ذويه إلا لسيرته العطرة وذكره الطيب ودماثة خلقه وتواضعه شهد عليها الكثير ممن قدم العزاء ، لم يرتجِ مالاً ولا مُلكاً ولا منصباً ،إنما ملك بخلقه وثقافته كنوز الدنيا وأموالها ، يذكرنا بالرجال الأوائل الطيبين من الآباء والأجداد في هذا الوطن الذين يتعاملون مع الآخرين ومع المجتمع بحسن أخلاقهم ونقاء سريرتهم، وحبهم المتفاني، وخدمتهم للوطن من أجل الوطن ، وقد صدق الشاعر حين قال ؛ الخط يبقى زمانا بعد كاتبه وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا والذكر يبقى زمانا بعد صانعه وخالد الذكر بالإحسان مقرونا …. رحل عنا من كان نعم الأخ ونعم الجليس ونعم الصديق ونعم المتحدّث والمفكر والمثقف ونعم من خط بذكره السيرة الطيبة الثرية، من يخالطه ويجالسه لا يتمنى أن يفارقه، موسوعة فكرية من الأدب والتاريخ والتراث يحملها فكره ، من يجول في مكتبته يجد الآلاف من الكتب الثمينة والموسوعات الأدبية والدينية والسير الذاتية النادرة يدفع الآلاف من أجل اقتنائها وقد بلغت حوالي أكثر من 20 ألف كتاب ، فكان قارئاً نهما ، وساهم في ميدان الثقافة والفكر ، وكان مولعاً بالتراث الشعبي القطري الأصيل وبناء ًعليه أصدر كتاب «الأمثال الشعبية في قطر»، وهو أول كتاب يوثق للمثل الشعبي في المجتمع القطري، هكذا وجدناه رحمه الله وهو بيننا ، وهكذا تحدث عنه المقربون ، وهكذا ترك خلفه من يذكره . …. لقد ودعناه وقلوبنا مكلومة لفراقه ، وعيوننا تذرف عند ذكره ، عاش مع مرضه بصمت ورحل من الدنيا بصمت ليكرمه الله بيوم فضيل ليكون آخر منازله من الدنيا، عزاؤنا ما خلفه من أثر طيب ، سنبكيه بقلوبنا كما بكينا السابقين ممن تَرَكُوا أثرا طيبا وما زالت معانيهم باقية ومتوارثة من رجالات الوطن الأوفياء الذين أثروا بعطائهم وعملهم وسواعدهم الوطن وتركوا بصماتهم للزمن والتاريخ ، رحمهم الله جميعا ورزقهم من الطيبات في جنات الخلد ،فما أجمل عبير الرحيل بعبير الذكريات في زمن المادة والمصلحة ، وما أجمل أن يرحل الإنسان طيب الذكر وكأنه لم يرحل، رحم الله د . أبوجاسم وأسكنه الجنة وآنس وحشته .. وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون [email protected]