19 سبتمبر 2025
تسجيلكنت في دعوة كريمة على العشاء من قِبَل مدير معهد جيمس بيكر للدراسات في تكساس، السيد إدوارد جرجيان، كان ذلك في اكتوبر 2010 أي قبل الربيع العربي وإرهاصات الثورة التونسية بشهرين، دار حديث حول تجربته في الوطن العربي وكان ينوه إلى أهمية الجماعة التي تقف خلف الحكام "الحاشية"، والتفت إلي السيد جرجيان (الأرمني الأصل اللبناني) وهو يتقن التحدث باللغة العربية الفصحى التي كان قد تعلمها فيه، وخلال مهامه الكبيرة سفيراً سابقاً في منطقة الشام، سوريا، الأراضي الفلسطينية "المحتلة"، ولبنان فسألني عن معنى كلمة عميقة: ماذا يطلق في اللغة العربية على الأفراد الذين يكونون حول الحاكم؟ سألته: تقصد البِطَانة؟ فطلب مني أن أكتبها له خطياً، ولأننا في عشاء رسمي صغير كان فيه هو المضيف، لم يكن أمامه سوى خلفية بطاقة عمله، مدّها إلي فكتبتها، وأعاد السؤال سائلاً عن الكلمة وهو يحاول ترديدها وحفظها.. قلت له: هل تعلم من أين أتت لغوياً؟ أشرت إلى معنى بطانة المعطف الرسمي الذي يُلبس. فما كان منه إلا أن قلب معطفه أمامي حتى بانت بطانته. قال: هذا..؟ قلت له: نعم.. هذا هو المقصود لغوياً. فبطانة الرجل في معاجم اللغة العربية تعني: خاصته الذين يطلعون على أسراره ويستبطنون أمره، وهي مأخوذة من بطانة الثوب، وهي ما يلي الجسد منه. والآية القرآنية حسمت أهمية أو خطورة أمر "البطانة" بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتّم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)) [آل عمران/118].. والبطانة تعني هنا: الدخلاء والدخيل هو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، ويفضي إليه بسره ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته ويعمل بمقتضاه.. و"الخَبالُ" هو الشر.. أعود لـ (جرجيان).. فقد أخذ البطاقة الصغيرة محتفظاً بها في جيب معطفه مكرراً حديثه حول أهمية بطانة الحاكم. وسرحت بي الفكرة كيف كنت أشدّد على الخياط زمن الخياطة في وضع بطانة "جيدة الخام" لثوبي، حتى لا يبدو متراخياً، والشيء بالشيء يذكر، خصوصاً أن الفستان لي كامرأة يعني لي الكثير. ومرّت الأحداث تترى على الوطن العربي عام 2011 في ربيع يطلعنا لا على حكومات فاسدة فحسب بل على منتفعين وممالئين ممن يلتف حول رائحة الدم وأنياب ومخالب حكّام مستبدين. فضلا عن وجود مماثليهم في السلم والحرب. البطانات الملتصقة بالحاكم في الحرب او السلم وحتى الرخاء ليست بالضرورة كلها ناصحة أو صادقة فيما تصدره من تقارير أحوال مجتمعاتها وشعوبها، بل هناك الكثير من الأمور التي تُغَيَّبُ ويُظهَرُ فيها العكس بهدف المصلحة الشخصية لدى البعض، وتعمية الحقائق أو تغييبها أو تجميدها.. أو أضعف الايمان السكوت لنيل مصالح لا تتأتى بإفصاح الحق في "نزاهة"، ولا يلحق الضرر فيها حاشية البطانة، بقدر ما تضر الحكومات والحكام على المدى البعيد، حيث إن البطائن — فوق كونهم عين "الحكاّم" — غدَوا هم دون غيرهم "حُرَّاس البوابة" الذين يغلقونها ليس فيزيقياً فحسب — وهذا جائز تنظيمياً في عرف الحكّام ومسؤولياتهم الجسام — إذ لا يكفي وقت الحكام حتى لو خصصت جلسة واحدة للمواطنين. ولكنّ أقساه أن يصل الأمر إلى حجب البطانة لأي مصلحة عامة، سواء وردت بطلب أو برسالة عن بعد؛ مخطوطة كانت او مطبوعة او الكترونية او هاتفية او شفوية، فقد ترمى في حاويات منفية سلفاً لا تخضع حتى لما يسمى "إعادة التدوير" لأن الهمّ الخاص أضحى عند البعض أكبر من الهمّ العام، والمصلحة الفردية مقدمة على المصلحة العامة، وعلى الضمير الجمعي لله وللوطن. وفي سياق آخر، قد يكون الحكّام صالحين فيبتلون ببطائن تهزّ عروشهم، وتظلمهم حتى يغدُوا ضحيةً، وتُظلم بعدهم شعوبٌ تحت عين عوارء، مما يشكل على المدى البعيد قهراً اجتماعياً وغلياناً داخلياً، قد يذكي إلى ما يطفو وما طفا على سطح الثورات الشعبية في دول الربيع وغيرها الكامن، مما تتنهد به صفحات الفيس بوك وتويتر أو نقاشات المدونات والمنتديات من مطالب الإصلاحات المتعددة المجالات، أو كشف الفساد بمختلف أشكاله ومعاقبة فاعليه، والتي يجدر الأخذ بمكنونها وتنهداتها الشعبية، من أجل أمن واستقرار اي وطن وتحقيق العدالة والاستقرار لا للمحكومين فقط بل وللحاكمين ايضا. وكما أسلَفتُ، تختلف النظرة الفيزيقية لمعطفك بقدر قوة بطانته، وقد تتهلهل بما تخفيه تحتها، والمعنى في اللغة هو ذات المعنى في الحياة، وفي أمور الإدارة صغرت أم كبرت، وكلا الأمرين وارد كما نبه إليه الخالق سبحانه في القرآن الكريم. وكما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة الا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصم اللهُ تعالى".