20 سبتمبر 2025
تسجيلأخيراً التفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المتطرفين الروس الذين من المفترض أن يشكلوا عنصراً مهماً، وحمضاً نووياً أساسياً للحكم الروسي لأكثر من قرن، وهو الذي تسامح معهم كثيراً في تطرفهم، وتشددهم سابقاً، لأنهم في الحقيقة هم من يعادي الغرب ويشحنون المجتمع الروسي لقتاله في أوكرانيا وغيرها، فكان أن أقدم على اعتقال ضابط الاستخبارات الروسي المتقاعد إيغور جيركين الذي خرج عن صمته أخيراً مطالباً بوتين بعدم الترشح في انتخابات مارس/ آذار 2024، فتم اعتقاله وحكم عليه بالسجن خمس سنوات وفقاً لما أدلت به زوجته. جيركين ليس شخصية عادية، فهو مطلوب لمحكمة العدل الدولية في لاهاي لدوره في إسقاط الطائرة الماليزية عام 2014 والتي أودت بحياة 298 مدنياً يومها، ورفضت روسيا حينها تسليمه للمحكمة، تماماً، كما نفت مسؤوليتها عن إسقاط الطائرة المدنية. وقد ترافق اعتقال جيركين مع حملة اعتقالات واستجوابات طويلة شنتها قوات الأمن الروسية على متطرفين روس كانوا بالأمس أبقاراً مقدسة لا يمكن أن يطالها أحد، ولكن تصاعد انتقاداتها للحكم الروسي بعد تمرد فاغنر الذي شجعها على ذلك، دفع القيادة الروسية للالتفات إليهم. وعُرف من بينهم العقيد المتقاعد في الاستخبارات العسكرية الروسية كفاجكوف الذي اعتقل الثلاثاء الماضي، واتهم بتحقير الجيش الروسي، حيث اتهم بوتين بإرسال قوات روسية بديلاً عن مقاتلين من آسيا الوسطى إلى أوكرانيا، وسبق هذا الاعتقال، احتجاز الجنرال سيرجي تشوركين جزار حلب، ويوصف أيضاً بجنرال هرمجدون وعدد من رفاقه، نتيجة تواطئهم مع تمرد فاغنر. سياسة بوتين بالتعرض للمتطرفين الروس خط أحمر التزمت به القيادة الشيوعية في عزّ بطشها وجبروتها، فكانت تتسامح مع انتقاداتهم لها، التي كانت تقرأها على أنها من باب المصلحة الروسية، ومزاودة عليها في مواقفها المتصلبة تجاه الغرب، وقد فسّر ذلك مبكراً مدير المخابرات المركزية الأمريكية السابق آلن دالاس بأن الشيوعية عادة ما تتسامح مع المتطرفين معللاً ذلك بأن (الشيوعية نظام يتعامل بتشدد مع كل شيء باستثناء أتباعه المتطرفين). الظاهر أن تمرد مرتزقة فاغنر أطلق العفريت من قمقمه، ولذا فإن ثقة الروس اليوم بالقيادة وبمصير روسيا لم تعد كما كان عليه الأمر قبل غزو روسيا لأوكرانيا، وقد فسّر مسؤول أمريكي استخباراتي رفيع المستوى ذلك في حديثه لصحيفة التايمز البريطانية بقوله: «إن الجيش الروسي في حالة قلق، وإن 13 طيارا قتلوا خلال عملية التمرد التي قادتها فاغنر، وبوتين يستجدي القتلة بأن يبقوا في روسيا، لكنهم رفضوا وآثروا المغادرة إلى بيلاروسيا». مثل هذا الواقع يعكس مدى القلق والخوف الذي ينتاب القيادة الروسية، ويظهر مدى الدرك الذي انهارت إليه الدولة الروسية، ونحن نرى استجداء بوتين لمن انقلب عليه للبقاء في روسيا، بعد أن مسح بسمعته الأرض محلياً وعالمياً مثل بريغوجين زعيم فاغنر، ولعل السياسات التي انتهجها بوتين أخيراً كرد على الدعم الغربي لأوكرانيا من تخليه عن صفقة الحبوب، إنما تعكس تماماً حالة الإحباط والانسداد التي يعيشها فقام بقصف أوديسا، وكأنها رسالة للغرب ولكل من أراد أن يرسل بواخره لنقل الحبوب الأوكرانية للخارج. من الواضح أن روسيا على مفترق طرق حقيقي، فالدولة دخلت مرحلة التفسخ، وهذا التفسخ لن تكون أضراره داخلية على روسيا فحسب، وإنما على العالم كله، الذي تتدخل فيه روسيا بشكل يومي ولعقود، وعلى العالم أن يستعد لزلزال روسي ربما سيكون أقوى من زلزال انهيار الاتحاد السوفياتي، طبعاً فيما إذا استمرت الحرب في أوكرانيا، وهو المرجح على ما يبدو.