17 سبتمبر 2025
تسجيلتعاني منطقتنا من شكلين من أشكال الريع، الشكل الأول هو الريع النفطي، أما الشكل الثاني فهو الريع الديني.الريع النفطي أُشبع بحثا وتقصيا منذ قيام الدولة في الخليج، وكتب فيه وعنه الكثير، إلى درجة أنه وضعت سياسات وإستراتيجيات للخروج منه على مر العقود السابقة، ولم تفلح إلى اليوم في إخراج الدولة من تأثيراته السيئة على الاقتصاد، وعلى تبعية الدولة للخارج وعدم القيام بتنمية مستقلة تحفظ لها سيادتها واستقلالها. النوع الآخر هو «الريع الديني»، وهو الأخطر اليوم لما تمر به المنطقة من حمى طائفية بغيضة تكاد تأكل الأخضر واليابس ولا توفر مسلما ولا كافرا. ولكن «الريع الديني» الذي أقصده، هو فهم النص فهما متعاليا على الواقع، عابرا له ولمقتضياته ولظروفه، ومحاولة تطبيقه بهذا الشكل المتعالي الذي جعله الله صالحا لكل زمان ومكان حتى تقوم الساعة، من خلال تفسيراته للواقع وللظروف تماشيا معها ومع انغماس الإنسان فيها، حيث هو المقصود من النص. هذا الريع الديني الذي لم يعقلن بعد، أو يتفاعل مع الواقع بشكل عقلاني وإنساني، يجعل من الحياة دائما ساحة صراع ليس مع غير المختلف دينيا فقط، وإنما حتى مع المماثل في الدين وفي العقيدة، لأن قراءته قراءة متعالية ليست مراعية للظروف ولا لتغيرها . فإذا كان الريع الاقتصادي المتعالي إنسانيا على بعض فئات المجتمع يشكل أحزمة فقر ومدن صفيح، فإن الريع الديني ينتج عنه إقصاء تام من الحياة ذاتها، تحت مسميات الكفر والزندقة والمروق من الدين واستحقاق العقاب الإلهي حسب قراءة أصحابه المتعالية للنص وتفسيراتهم الضيقة له. فإذا كانت إيجابية الريع الاقتصادي تذهب للنخب الحاكمة والمتمكنة ودوائر حولها، فإن إيجابية الريع الديني تذهب لمشايخ الدين وعلمائه الذين يوجهون أتباعهم ومريديهم، حيث يزيد من تمكنهم وفرض شروطهم، فالفتوى إذا لم تراع الواقع فهي ريع، والحكم إذا كان متعاليا كالحاكمية لله فقط دون تفصيل وإدراك لعمومية اللفظ وخصوصية الواقع فهو ريع. من أشكال الريع الديني كذلك هؤلاء المشايخ المتزايد عددهم يوما بعد يوم، المتفننون في تقديم برامجهم بحيث لكل قناة مظهر مختلف، وعرض مختلف، وموضوع مختلف، بدأنا ببرامج الوعظ الديني المختصر، وانتقلنا لبرامج الرؤيا وتفسير الأحلام والحياة الزوجية الدينية، وانتهينا بالتمثيل، فها هو أحدهم يقول إنني مثلت فيلما، وآخر مثلت قصة إيمانه وورعه أمامه في سابقة لم نعهدها قبل ذلك في الأحياء، فكل ما كنا نشاهده هو إعادة لتصوير أحداث وشخصيات إسلامية رحلت، مما يضفي على الواقع شعورا إيجابيا، ولا يُحمل الواقع تبعات ما قد يحصل أو يصدر مستقبلا منها، فيما لو تغيرت الظروف، كل هذا يشكل ريعا دينيا يقفز على الواقع وتدرجه بإيجاد صور وشخصيات مكتملة تماما، ونحن ندرك بأن المسلم حالة الصيرورة المتمسكة بدينها كالقابض على الجمر الذي يسأل ربه الثبات والعون حتى يلقاه. جميع شيوخنا محترمون وموقرون، لكن أدعوهم إلى أن لا يتحولوا لشكل من أشكال الريع، وأن لا يحولوا الدين إلى ذلك أيضا . كان في مشايخنا فيما سبق عزوف ارتفع بالدين، وورع حفظ له ولهم مكانتهم ومسافتهم. نسأل الله أن يهدينا جميعا لما يحبه ويرضاه، وأن يحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وطريق نجاتنا، إنه هو نعم المولى ونعم النصير.