13 سبتمبر 2025

تسجيل

أرجوك..أنقذني من الفراغ!

25 يوليو 2018

"الفراغ مسئولية جسيمة"، لا يحتملها الكثير من الناس، وإن كنت في شك من ذلك فيمكنك التأكد من صحة المقولة، رُمْ مكاناً بعيداً أو اقصد جزيرةً نائيةً أو أغلق على نفسك باباً لا يدخل عليك أحد ولا تكلم أحداً فقط أنت والفراغ، ثم انظر ما تستطيع، فإن مكثت يوماً فلن تستطيع الثاني، وإن احتملت الوحدة يومين فبالتأكيد لن تحتمل الثالث، أما إن كنت قوياً ومصراً على أن تُخْسِرَني الرهانَ فتحملت العزلة ثلاثة أيام إلى ثلاثة أسابيع فأنت بالتأكيد إما حكيم أو مجنون، المجنون لأنه لا يعي شيئاً، والحكيم فلأنه وعى الله في قلبه فكأنه وعى كل شيء فلا تراهن على هزيمة شخص لا يخاف من الفراغ!   إن أكثر الناس ونحن منهم ليسوا حكماء أو مجانين بل ضعفاء واهنين لا نقوى على تكاليف الفراغ ومواجهة التزامات الوحدة، ففي نفس كل واحد منا وحوشٌ وضواري ذئابٌ وثعابينٌ لا تروضها إلا الوحدة في ظل فراغ! والفراغ مرآة عاكسة لطبائع الأمم وأخلاق الناس، يحفظ لنا التاريخ أن الإنجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار كندا فنجح الإنجليز وفشل الفرنسيون وعللوا ذلك بأن كندا كانت أرض قفار يتطلب استعمارها جنوداً كابدوا الوحدة وعرفوا قيمة الانعزال والأمة الفرنسية تمل من الوحدة وتعشق السهرات أما الإنجليز فيعرفون العزلة كما يعرفون العمل، فإذا كان هذا شأن الفرنسيين فكيف بنا نحن العرب، إن المقارنة هنا ليست في صالحنا ، فالفرنسيون أمة سريعة الملل لكنها تعرف أن الملل وحش وتعرف كيف تروضه لقد اشتق الفرنسيون من الألبان ثلاثمائة وستين صنفاً من الأجبان، بعدد أيام السنة تقريباً فالملل عند أمة تروضه يصنع المعجزات. أما نحن العرب فلا نجيد العمل ولا ترويض الملل فماذا فعل الفراغ بنا وماذا فعلنا بالفراغ؟! إن الواحد منا إذا طال مكثه بين أبنائه في العُطَل شب النزاع واستحال البيت إلى حريق أو مكان لا يحتمل فيسارع بالخروج من المنزل أو يقطع إجازته عائداً إلى عمله ولأن أبناءنا هم أكثر منا ذكاءً لأنهم أفضل منا نقاءً يفهمون أن هذا ضرب من الهرب لا يجدي معه القسم باننا نعمل من أجلهم بل هو الهروب من مسئولية حتمتها لحظة نشوة غير محسوبة، إن في موادعة الزوجة والأبناء في وقت الفراغ مقاربة مع النفس ومصالحة مع الذات تقترب من فضائل الوحدة والذي يعجز عن مؤانسة الزوجة والأبناء فهو عن الوحدة أعجز، فأبناؤنا هم بعضنا ومن لا يقوى على بعضه لا يقوى على كله أما الزوجة فهي شقيقة الروح. في بحث بديع قام به باحثون اجتماعيون عن سؤال اللحظة الأخيرة لمنكوبي حوادث الطائرات والكوارث " ما الرسالة التي تود أن نوصلها لك؟ لقد كانت الرسالة موحدةً من الجميع "زوجتي وأبنائي أبلغوهم كم أحبهم" إنها رسالة تختزل نهراً من ندم وآخر من أمل الندم على أوقات أضاعها بعيداً عنهم بخلاً بها وكانت حقاً لهم والأمل في فسحة من عمر جديد يعوضهم فيها عما فات لقد مثلت هذه التجربة القاسية نقطة تحول كبيرة لمن نجى منهم، ولسنا بحاجة لمثل هذه التجربة القاسية لكي نقنع بالمطلوب ففي أوقات الفراغ مندوحة لمن أراد حياة أو أراد شكوراً ولله در الفراغ لقد كشف لنا أي نوع من الناس نكون!