17 سبتمبر 2025

تسجيل

عبدالعزيز ناصر.. الحاضر دومًا

25 يوليو 2018

مرّت الأسبوع الماضي الذكرى الثالثة لرحيل الموسيقار العزيز عبدالعزيز ناصر، أحد أبناء هذه الأرض الطيبة، والطير الغَرد الذي ملأ قطر حبًا وشوقًا ، وأقام للفرح موائدَ عامرة ، وتسامى فوق الجراحات الغائرة، مُيممًا وجهَ الوطن بلا حواجز أو سدود. وكانت إذاعة ( صوت الخليج) قد خصصت حلقة في ساعتين للحديث عن الراحل، حيث تحدّثت مجموعة من الأخوة الكتّاب والفنانين ، وبعضهم عاصرَ الراحل سنوات طويلة، وآخرون عرفوه في سنواته الأخيرة. وعبدالعزيز ، كما عرفتهُ قبل خمسين عامًا، حيث كان لقاؤنا الأول في فرقة الأضواء الموسيقية، إنسان استثنائي، ونسخة أصلية لا تتكرر. ولقد ارتبط بالأرض، وعاني همومَ الناس، وشخّصَ المواقف السياسية والاجتماعية والتراثية والعاطفية بأسلوب فريد لم يسبقه إليه أحد. لم يسمح لي الوقت في حلقة (صوت الخليج) للحديث عن عبدالعزيز بإسهاب ، وذلك لكثرة المتحدثين وعُمق معلوماتهم وذكرياتهم مع الفقيد. إذ منذ لقائنا الأول عام 1967 استطعتُ استخلاص بعضَ ملامح الفقيد وخوافيه، رغم ما يُحيط به نفسه من صمت وتأنٍ في الردود ، ومن هذه الملامح: -              شدة اهتمامه بالمُتحدث. -              عمقٌ كبير داخل عينيه يُغريكَ بمواصلة الحديث. -              الصدق الصافي مع الابتسامة الساحرة. -              الصبر والتأني. -              فن القيادة، من خلال قيادته عازفين يكبرونه سنًا. -              قوة الملاحظة ودون تجريح. -              عمق الثقافة والإحاطة ليس بعلم الموسيقى فحسب، بل إنه مرجعية في التفسير، واللغة والتاريخ، ولقد اقترب من الخط الصوفي. -              القدرة الفائقة على رسم الكلمة لحنًا، أو تجسيد الموقف في القصيدة، بحيث يكون لكل كلمة صورة بحد ذاتها. -              إشاعته لجو المرح، خصوصًا عندما تنتهي البروفات اليومية في الفرقة، ونذهب معًا إلى المطعم الهندي - بجوار دوار المطار القديم - كل ليلة، ومعنا من الأصدقاء: عبدالرحمن الغانم، وليد عبدالله، المرحوم حسن علي، المرحوم حسن حسين، فرج عبدالله، المرحوم اسماعيل عبدالرحمن ، المرحوم علي عبدالرحمن .. وغيرهم من أعضاء الفرقة آنذاك.   ويُعتبر عبدالعزيز ناصر رائد التجديد في الأغنية القطرية، إذ بعد أن جمعَ التراث الغنائي من أفواه الرواة والفنانين والفنانات الشعبيات، على امتداد دولة قطر، قام بتلحين ذاك التراث بصورة رصينة محافظًا على الأصالة ، في الوقت الذي أكدّ على الهُوية القطرية في ذاك التراث. ومما يستوجب ذِكرهُ هنا ، بعض الأغاني التي ارتبطت بالأرض، مثل: أم الحنايا، يا راعي الملحة، باجر العيد.. وغيرها . في المرحلة الثانية بدأ عبدالعزيز ناصر في تحضير مشروعه الفني عبر الكلمة الجديدة، وكان من حُسن الطالع أن يشاركه في هذا المشروع الصديق الدكتور مرزوق بشير ، الذي كان يدرس في القاهرة آنذاك، ومما جادت به قريحة الرجلين : أصَدّر للورق همّي، تصوّر لو الهوى ما كان، لين يطرى علي لول، نسيتيني، لا تحلف لي، قبل ما تسنيني، عشقتج، أريد وأتمنى الفرح، إضحك لي مرة .. وغيرها. ولقد شكَّل وجود الرجلين معًا ثلاثيات في الأغنية القطرية ، جمعتهما مع الراحلَين فرج عبدالكريم ومحمد الساعي، وعلي عبدالستار ومحمد جولو وصقر صالح وغيرهم ممن تغنوا بكلمات الدكتور مرزق بشير وألحان الراحل عبدالعزيز ناصر. كما داب الراحل على تشجيع كل من يمتلك موهبة الكتابة، وظهرت على يديه مجموعه من الكُتاب ، بعضهم كتب أغنية أو اثنتين، وبعضهم واصل العطاء. وكان عبدالعزيز يُصلّح النصوص ولا يتسرع في تنفيذ الأغاني، إلا بعد أن يتيقن من أنه أكمل بناءها وأتقن جودتها. في مرحلة أخرى من درب عبدالعزيز ناصر الفني اتجاهه للأغنية الوطنية ! حيث ربط العشق بالوطن، ومن أبرز ما لحنّه أو بريت ( عيشي يا قطر) من تأليف الدكتور مزروق بشير، وتغنى به مجموعة من الفنانين القطريين : علي عبدالستار، محمد الساعي، محمد جولو، إبراهيم حبيب، والمطربة إجلال من مصر. ولقد جسّدت الأغنية العلاقة العضوية بين الإنسان القطري والأرض، وأبرزت طموحات الشباب ورؤيتهم لوطنهم ومستقبله، وعزمهم على الوحدة وحب الوطن. ومن الأغاني ذات العمق الذي يمسّ شغاف القلب، ما كتبه هو بنفسه ، وهي أغنية: يا قطر يا قدر مكتوب .. في كل خطوة يتابعنه.. لا أحد يا قطر عن ترابج يفرّقنه.. عمري قطر .. روحي قطر يا أم الكرم والجود عمري قطر.. لأجلك قطر نشتاق ونعود عيني قطر.. عمري قطر.. أفديج أنا بروحي عمري قطر.. لأجلك قطر إتهون أنا جروحي ولقد صاغ الكلمات وهو في غربة بعيدًا عن وطنه، ووجد نفسه يبكي ويريد العودة إلى قطر، فقام بتأليف هذه الأغنية. وأعتقد بأن هذه الأغنية من أصدق ما جادت به قريحته، وتشّكل المدى الواسع والواثق لحب عبدالعزيز لوطنه. وهنالك العديد من الأغاني الوطنية مثل: دومي بعزك، قطر أنتِ ، فديت ترابج يا قطر، يا قطر حبي..آنه قطري، الحب الأكبر، جيتك يا قطر،حب الوطن، طالت الغيبة، محتار يا بلادي ، هوى الدوحة، وطن الإحساس، يا قطر إنتي الحياة إنتي الوجود،.. وغيرها. مرحلة أخرى ومساحة جديدة دخلها الراحل عبدالعزيز ناصر هي مرحلة الأغاني باللغة العربية الفصحى ، وهنا استعان بكبار الشعراء العرب أمثال: نزار قباني، هارون هاشم رشيد، سميح القاسم، د.حسن نعمة ، معروف رفيق، العباس بن الأحنف.. وغيرهم، حيث تناول قضايا إنسانية وسياسية ووطنية عبّرت عما يجيش في صدره من حب وتسامٍ للإنسانية وعمل الخير. ولقد توّج الراحل حبه الكبير لوطنه بتلحينه النشيد الوطني، الذي سيظل حاضرًا كل صباح على وجوه أطفال المدارس، وعندما يُفرش السُجاد الأحمر، في كل لقاء رسمي. ولئن لم يُسعفه الحظ – رحمه الله – في إنهاء مشروعه الأوبرالي الكبير، إلا أن النشيد الوطني سيحفظ اسم عبدالعزيز ناصر للأبد. كما أنني علمت بأن الفنان الأخ محمد المرزوقي مدير إذاعة (صوت الخليج) يضطلع هذه الأيام بإتمام المشروع المذكور، وله في هذا كل الشكر والتقدير. ما كنتُ أود قوله في حلقة ( صوت الخليج) المذكورة ، أنني أشعر بالتقصير تجاه الفقيد، حيث بعد أن جمعتنا الظروف لست سنوات متواصلة في فرقة الأضواء، افترقنا في مرحلة الدراسة الجامعية ، وما إن عاد الفقيد من القاهرة وعدتُ أنا من الأسكندرية، حتى افترقنا من جديد ، ولقد ألهتني الحياة وظروف العمل عن زيارته حتى بعد إنهائي دراستي العليا عام 1989، وبعدها عملت خارج الوطن لأكثر من ست سنوات. كما أن حلَّ فرقه الأضواء وتحولها إلى فرقة مسرحية، بوجوه جديدة، قللَ من فرص لقاءاتنا، مع أن الفقيد كان يجمعنا في الخميس الأخير من كل رمضان على مائدته العامرة في منزله، ولكن مع ذلك ، فأنا حزين على الفُرقة التي حصلت بيننا، كنتُ أنا السبب فيها، حتى فوجئنا بمرضه الأخير واحتجابه عن الجميع. عبدالعزيز ناصر نسخة قطرية أصلية لا تتكرر، وشخصية عبدالعزيز التي جمعت الفن والدين والتصوف ودفق الحب، وأيضًا الحب الضائع، شكّلت أيقونة من الصفاء والصدق يندر أن توجد في أي شخص. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته.