15 سبتمبر 2025
تسجيلجلس المحامي المُحنك في قاعة المحكمة ، مُلتفاً برداء المحاماة الأسود كلون الغراب ، ويبدو على ملامح المحامي شيئ من القلق ، وقد بان ذلك الشعور من تكرار وضع يده في جيبه، والمسح على صدر ردائه، وأحياناً ترتيب الورق المبالغ فيه، يترقب دوره للمرافعة أمام حضرة القاضي. " محكمة !!! " ... وصل القاضي ومساعديه إلى المنصة، ذلك القاضي المُفعم بالغضب، فعروق وجهه تكاد تبين من سهولة فورانه في جلسات المحاكم المختلفة، ناهيك عن تقطيب حاجبيه الأبدي الأزلي في تلك الجلسات، و له هيبة يقف لها الجميع احتراماً وتوقيراً... وماهي إلا دقائق فطلب من المحامي المثول أمامه والجري في مضمار المرافعة والدفاع ، فبدأ مرافعته بـ " ياحضرات القضاة إن هذه القضية واضحة وسهلة وبسيطة ..." العدالة كما تعلمون هي ميزان يتساوى عليه الثواب والعقاب فجعلت الناس سواسية أمامها، العدالة هي امرأة تقف بشموخ وإباء ... ثابتةً باتزان ... وضعت على عينيها قماش سميك لا ترى فيه أحد عند تطبيق القانون ... وقفت معصوبة العينين .. تمسك... بيمينها سيفا ذا حد رقيق تقطع به أواصر الظلم ... وبيسارها الميزان المُتسم بالعدالة والثواب ...لا خوف مع العدالة ، وإن كان هناك من يخدش رجليها ... محاولاً قمع ما يُمليه عليه ضميرها الذي لا ينام حتى يرتاح المظلوم فتقتص حقه من الظالم ... ضميرها ... هو محكمة لا تحتاج إلى قاضٍ ولا كاتب ... ولا محامٍ يكتنفه القلق في مدى إمكانية ربح القضية من عدمه ... يا حضرات القضاة ... إن هذه القضية واضحة وسهلة وبسيطة ... ولكنها تحتاج إلى شيء قليل من الانصات ، وشيئ من الفلسفة ... ناثراً عليها شذرات العدالة ...فأنا مُحامٍ أو جندي حق لا أملك سوى سيفٌ أحارب به وأُدحض به الظلم ، ولا أخاف في الله عند كشف الحقيقة لومة لائم ... ياحضرات القضاة ... إن موكلي قد وقع عليه الظلم وارتسمت عليه معاني التوجس فأصبح كما قال تعالى : "فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى" يا حضرات القضاة إن هذه القضية واضحة وسهلة وبسيطة ، بالرغم من تثاقل الأسئلة حولها : لماذا ؟ وكيف ؟ ومتى ؟ تنحدر علامات التعجب عن تواجد موكلي خلف القضبان ... قضبان حديدية لا ترحم ، وأساور قاسية تُحيط يديه، لا يهنأ له نوم ولا يرتاح له بال ، رعديد لا شيء يطمئنه ولا رجاء له سوى السلوان ... أظلمٌ يسامره ؟ أم عدالةٌ أصبحت في عالم النسيان ؟ يا حضرات القضاة ... إن هذه القضية واضحة وسهلة وبسيطة ... وإن كان يشوبها شيئ من الجَمْجَمْة ، أتساءل وأنا أدرس هذه القضية كيف السبيل إلى دنيا خالية من الجور والتجاسر ، أقلوبنا هجرت العدل و الإنصاف ؟ أم أن ميزان العدالة قد اختلَّ توازنه ؟ والمرأة معصوبة العينين قد كشفت الغطاء عن عينيها؟ ووضعت سيفها في غمده بعد أن كانت تسلَّه في وجه كل مُعتدٍ أثيم ؟ كل هذه التساؤلات ليست إلا خلجات نفس محامٍ يغار على العدالة ، ويأبى أن تُهمّش وتُقطع أواصرها ، ومع ذلك يا حضرات القضاة إن هذه القضية واضحة وسهلة وبسيطة ... رد القاضي بامتعاض : " لو قلت مرة تانية إن هذه القضية واضحة وسهلة وبسيطة أنا حسجنك" ! فأكمل المحامي مرافعته قائلاً : "إن هذه القضية صعبة ومُعقدة ومتنيلة بستين نيلة ...." ومع ذلك عندما يقف الظلم أمام العدالة فلا بد للأخيرة أن تنتصر، وعندما يتصارع الباطل مع الحق لاشك بأن الحق سيغلب ، فصاحب الحق لا يُغلب ولو اجتمع عليه من اجتمع ... هي كلمات يا حضرات القضاة قلتها في قاعة المحكمة ... مُجرد عدالة أشرح معانيها... وظلم أدحضه ... وانصاف أبحث عنه، فتعلمت أن الحياة " سلف و دين" وضعا في ذلك الميزان " وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ "، وذلك الإنسان إما أن يأخذ عقابه في الدنيا أو يُدخر له للآخرة... أو يعاقب بالعقوبتين معاً كما هو حال الظالم...وأقول ما قاله المُستنصر بالله : "والله ما ذُل ذو حق وإن أطبق العالم عليه ، ولا عَزَّ ذو باطل ولو طلع القمر من بين جنبيه" .وفي جميع الأحوال: إن هذه القضية صعبة ومعقدة ومتنيلة بستين نيلة ... كما يرغب حضرة القاضي.