26 أكتوبر 2025
تسجيلرحلت منذ ايام قليلة الطبيبة والروائية والناشطة المصرية نوال السعداوي، عن عمر ناهز التسعين عاماً بعد "صراع مع الدين" بحسب وصف احد ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي متهكماً. وبعيداً عن محاكمة وتقييم آراء نوال السعداوي الجريئة والمثيرة للجدل، يمكننا ملاحظة ان فكر نوال السعداوي واجه معارضة شديدة وانتقادا لاذعا خلال مسيرته الطويلة، وصولاً الى تحريف آرائها وتقويلها ما لم تقله بلسانها، او بقلمها، في بعض الأحيان. ان المواجهة العنيفة للآراء غير المتسقة مع التوجه العام في المجتمع، تأتي في سياق التطرف الفكري المتجذر في العقلية العامة، وفي المثال السابق فإن الامر لا يتعلق بمعاداة النسوية اذا جاز لنا استخدام هذا التعبير، بل انه يأتي في سياق رفض كل ما من شأنه زعزعة او انتقاد ما يعتبر ثوابت للمجتمع او خلخلة النسق الفكري العام. وما يدلل على ذلك هو ان آراء نوال السعداوي المنتقدة لبعض الظواهر الانثوية (كمساحيق الزينة وعمليات التجميل) اثارت سخط وامتعاض بعض الناشطات من "بني جلدتها"، الأمر الذي يعد تأكيدا للتطرف الفكري وتهميش الآخر حتى لدى من يدعي المظلومية والانتقاص والقهر، كما انه يعد دليلا على الحساسية تجاه القضايا النسوية، والنقد الموجه لها. تتمثل اشكالية الحراك النسوي في المجتمع العربي في انه لم يبلور خطاباً واضح المعالم، ولم يتجاوز كونه ظلالاً لتجليات الحراك النسوي الغربي، كما انه اصبح عنوانا وملاذا للتمرد ورفض الظلم الذي من المفترض ان يكون مرفوضاً من الجميع، وعلى الجميع. يمكننا ملاحظة تلك الجزئية تحديداً بالاستشهاد ببعض الحملات الاعلامية التي تم اطلاقها للمطالبة بإطلاق سراح الناشطات المعتقلات في بعض الدول، والتي لاقت تأييدا من قبل منظمات ودول غربية، في حين استثنت تلك الحملات المطالبة بحرية المعتقلين من الرجال، في تأكيد على مثنوية الرجل/ المرأة، من جهة، ومن جهة اخرى يمكن اعتبار ذلك تطرفاً وانحيازاً للنساء دون الرجال، وتأكيدا على الحالة الجندرية المترسخة في المجتمع حتى لدى من ينادون بنبذها والتحرر منها. من جانب اخر، تولد تلك التوجهات شعوراً تجاه المعتقلين من الرجال والقابعين في غياهب المعتقلات وكأنهم غير مشمولين بعين الرحمة النسوية. يتركز الحراك النسوي في صورته العامة على شحذ الهمم والعواطف للاستئثار بالنصيب الأكبر من الحقوق، دون النظر للواقع العام لحالة الحقوق في المجتمعات العربية، ومحاولة كسب تأييد المجتمع رجالا ونساء، ونعت المتحفظين على بعض المطالبات اما بالذكورية بالنسبة للرجال، او بالعبودية والخضوع لأولئك النسوة اللاتي لا يبدين حماسة للمطالب النسوية. لقد سلكت بعض المطالبات النسوية منحى متطرفاً في المطالبة بالحريات والحقوق، والتي من المفترض الا نقف ضدها من حيث المبدأ، الا انها ذهبت في أحيان كثيرة الى تهميش دور الأسرة والحط من مؤسسة الزواج وتحجيم دور الرجل بل ومطالبة الأخير بحمل الراية واقناعه بإلقاء نفسه الى التهلكة! واقناعه بضرورة التخلي عن دوره ليظفر بالمظهر الحضاري المتقدم. يمكننا اعتبار هذه الحالة أنها تسعى في كثير من الأحيان الى التخلص من صنم والركون الى صنم آخر، عبر ترسيخ النسوية الراديكالية، وتعزيز فرضية ان المجتمع الذكوري يؤسس لظلم المرأة، ويحط من قدرها ويهمش دورها، وبالتالي لن يستقيم شأن المجتمع الا بالإطاحة بالمجتمع الذكوري والعودة للجذور الوثنية لتقديس المرأة. ومع ذلك يغلب الاعتقاد بأن التجربة النسوية في العالم العربي لم تؤسس مطالباتها على تلك التصورات والمبادئ بشكل واع، الا ان واقع الأمر يثبت تأثر الحراك النسوي الذي لم يبلور خطاباً واضح المعالم بتلك التيارات دون وعي وادراك. مؤخراً، انسحبت تركيا من اتفاقية المجلس الأوروبي المعنية بوقف العنف ضد المرأة والعنف الأسري ومكافحتهما، والتي كانت قد انضمت اليها في عام 2011، وعزى بعض المسؤولين الاتراك سبب هذا الانسحاب الى ان الاتفاقية "اضرت بالنسيج الاجتماعي التركي" بحسب وصفهم، حيث ترى تركيا ان الاتفاقية لا تتعلق فقط بما تبرزه في عنوانها العريض، بل انها تخفي بين طياتها قضايا اخرى تهدف الى تعزير السلوكيات الشاذة وتهدد مكانة الاسرة. وفي تعليقه على قرار الانسحاب، قال فؤاد أوكتاي نائب الرئيس التركي عبر حسابه في تويتر "مصممون على نقل نضالنا الرامي لرفع مكانة المرأة التركية إلى مستويات أعلى، مع المحافظة على نسيجنا الاجتماعي التقليدي ولا داعي للبحث عن الحلول في الخارج أو تقليد الآخرين من أجل تحقيق هذا الهدف السامي، فالحل يكمن في عاداتنا وتقاليدنا وجوهرنا". من جانب آخر، تسعى كثير من دول العالم العربي الى تقليد المرأة مناصب قيادية في الجسد الحكومي، بل وتفخر بهذه الخطوة معتبرة انها انجاز في حد ذاتها، دون النظر "في بعض الاحيان" الى الاضافة النوعية التي ستقدمها تلك المرأة للمنصب، حيث ان هذه الخطوة تأتي انسجاماً مع التزام الدول الموقعة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتي تسمى اختصاراً "سيدوا"، والتي اصبحت ملتزمة بها، باستثناء بعض التحفظات التي ابدتها بعض الدول. وفي الوقت الذي قضت فيه كثير من الدول على تفاوت الرواتب والاجور بين الجنسين، وعملت على مساواتها وعدم التفرقة في الأجور على أساس جنسي "وهو امر ايجابي"، وامام استمرار الرجل بالتزامه بالنفقة والقوامة المادية، نجد "بعض النساء" ممن زاحمن الرجل في الوظيفة العامة كتفاً بكتف، لا هم لهن سوى صرف تلك الاجور المتعادلة والمتساوية على الكماليات وحقائب اليد الباهظة، ومع ذلك لا يمكننا بكل تأكيد الاعتراض او الامتعاض من هذا الأمر، انسجاما مع اتفاقية "سيدوا"، وخوفاً من التمرد عليها والخروج من اطارها. وفي السياق ذاته فقد قامت احدى سلاسل مطاعم الوجبات السريعة المعروفة بنشر اعلان عبر "تغريدة" في موقع "تويتر" تعلن فيه عن منحة للنساء للحصول على درجة اكاديمية في فنون الطهي، بأن قالت ان "المرأة تنتمي الى المطبخ"، الا ان تلك التغريدة لم ترق لكثيرين ولم تكن موفقة، حيث اثارت انتقادات واسعة من قبل المجتمعات النسوية اضطرت معها سلسلة المطاعم تلك لحذف الاعلان والاعتذار عنه، لأن الاعتذار من شيم الكبار بكل تأكيد. ولو افترضنا جدلاً بأن سلسلة المطاعم تلك قالت بأن الرجل يتفوق على المرأة في الطهي، لواجهت انتقادات لاذعة أيضاً من قبل تلك المجتمعات النسوية ذاتها، وهنا يمكننا تشبيه هذه الحالة المتطرفة بالثنائية المرتبطة بالجنس الأبيض والجنس الأسود، حيث إن التطرق للون الأسود بشكل مجرد وذكره في سياق النوع قد يولد تصورات عنصرية ممقوتة، في حين انه لون بشري كباقي الألوان يفترض الا يكون ذا مدلول عنصري، الا أن الحمل التاريخي انتج هذه الاشكالية واصبح وقعه يولد شعوراً بالانتقاص والحط من الكرامة. وامام هذا الواقع المتطرف والمنحاز للمرأة خلف ستار النسوية والذي يخفي خلفه ما يخفيه، فإن اخشى ما اخشاه هو ان يأتي اليوم الذي يتم فيه تشريع قوانين تجرم "معاداة النسوية"، وحينها ستصبح حتى هذه السطور تهديداً لكاتبها، ولن نتمكن حينها حتى من انتقاد أفكار بعض مدعي المظلومية وستسلط بعض الجلادات سياط النسوية اللاذعة على افراد المجتمع.