15 سبتمبر 2025
تسجيللم أعرف كيف ألملم شعثى وأجمع ما تناثر بى من مكعبات، تحاورنا معاً لنجد لنا مخرجا يقينا شر الهروب، وتبادلنا الحديث بأفواه بكماء تحمينا من شؤم الثرثرة، أشتهى حجراً أقتل به ضالتي، وأتلهف على طين ليُرتّب بعثرتي، عشنا معاً ليلاً جريحاً، وأصبحنا كأعين مذهولة لم يرف جفناها منذ البارحة ولكن لمّعتها أضواء الشوارع... سرنا بين بيوت من الطين بلا خريطة طريق تدلنا على منفذ، فكرنا بأن نتناثر فى الهواء كضياع انتحارى لكى لا يبقى بى سوى روحى فتطلق العنان لرجليها فى المكان دون أن يلحظها أحد." هل جننت؟ " هكذا خاطبت نفسى وأنا أنظر إلي فى المرآة بعد أن استشهد ظلى ذلك اليوم فى معركة بلا مقاومة ودونما سلاح، حتى أصبحت عبارة عن مكعبات لم تفهم ما بها من ألم، فلا زلت أرى وجهى مبعثراً، وعينىّ متأججتين كالنار، جدرانى فى ذلك المساء كانت دافئة وحميمية تلامس ما بى من مكعبّات لتمنحها الهدوء والسكينة فهى أعطف عليها من البشر، جلسنا مجتمعين لنبحث عن شيء يجعلنا كالجسد الواحد " اللعنة... أريد أن اكتمل! ".بعض الأفكار تتأرجح من أعلى سقفى وتراود مكعباتى عن نفسها، فقلت لها هيت لكِ، فتطايرنا فى الهواء لنبحث عن ذلك المجهول الذى سيُعيد اكتمالي، لم نجن سوى بعض من اللاصقات القوية فاجتثثناها من أدراجى الخشبية المتآكلة، لم نُصدّق ذلك فأردفت احد مكعباتى قائلةً: " هلا يا بعد حييّ وحياني! "، فاحتضنت تلك المكعبات بعضها البعض فأعادت الى جسدى المُفَرَّق ونحتت آمالى المجروحة وغرست خيوطها الطبية فى أعماق الجلد المُترّهل لجموحي، لم أكن سوى بقايا انسان!بعد مرور ساعات...تلك النجوم شعرت بها والتبس بى الليل، كان البرد قارساً وقد التبست به هو الآخر عتمة دامسة، صرصار الليل عزف لى لحناً آخر وأنا ما بين نوم ويقظة، كل شيء فاحم حولى هذا المساء، شعرت وكأنما أرجل تهرول فوق رأسي، لم تتضح لدى الرؤية بعد... الا بعد مرور ساعات وأنا فى غيبوبة داهمتنى لم أستفق منها إلا بعد أن سمعت صوتاً متذبذباً يسلك طبلة أذنى ممزوجاً بأشعة الشمس الساطعة على وجهي، ورائحة المطر تقتحم أنفي..." هلو... هلو " استفقت على صوت ترتسم عليه لكنة فلبينية، بجانبى زجاجة ماء وكوب القهوة الكارتونى لا يزال ملتصقاً بيدي، هرعت وقوفاً أبحث عن مرآة لأشاهد بها وجهي، وألتفت يمنةً ويسراً خشية أن ألقى مكعباً مفقوداً، كل شيء على ما يُرام فى جسدي، أين أنا؟ استفقت على باب الوزارة، أنا هناك... كيف وصلت؟الهدوء يعم أرجاء الوزارة، بعض الموظفين يمارسون أعمالهم بحواجب مقطبة وآخرون لا تتحرك بهم سوى أصابعهم على لوحة المفاتيح وأعينهم سارحة على شاشات الكمبيوتر، يبحثون عن وميض لسهم عابر يملأ شاشاتهم بالحروف، سلكت طريقى وفى يدى قهوتى فسمعت من مكان بعيد صوت محمد عبده يتغلغل من الراديو، مثل ذلك اليوم الذى سمعت فيه هذا الصوت فى منزلي:ناديتي... خانتنى السنين... اللى مَضت راحتناديت... ماكن السنين... اللى مضت راحتكنا افترقنا البارحة...البارحة.... صارت عمر...ليله... أَبَدْ عيٌت تمرٌ...وقفت بذهول أمام احدى المرايا... مكعباتى اختفت لم أعرفها ولم أعرفنى إلا منذ سطر... جميع مابى مكتمل الا بعض السطور التى تلاشت من جبينى فلم أعد أمتلك سوى سطر هائم... سرت بين الممرات لأبحث عن صدى لصوتي... وجواب لعلامات الاستفهام التى تترامى من أعلى رأسى الى أخمص قدمي.. أطلقت العنان لرجلى لتسير لوجهة ما بين ساكنى هذا المكان... ولم يرقبنى أحد إلا بعد دخولى لمكتب فخم أبوابه مذهبّة وذات خشب بني محروق ومصقول بحرفية،، نُقش عليه " هذا من فضل ربى "...فتحت الباب فاذا بسعادة الوزير يجلس على كرسيه بأنفة يرتدى سواداً، على رأسه تاج زمردي وعلى رأسى اكليل ويتكئ على عصاه يعلوها رأس غراب، طاولته خشبية فخمة يجلس حولها غربان سود ينظرون الى ويصدرون نعيقهم، التفت إلي سعادته مردداً: " قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ "، ثم ضرب بعصاه الأرض مراراً وتكراراً، والغربان ازداد نعيقهم وأنا أنظر اليهم بدهشة وأسأل نفسي: " من هؤلاء؟ أين أبناء وزارتي؟ أين أنا؟ جميعهم غرباء علي! ".أذناى امتلأتا بصخابة الأصوات حتى وجدتنى روحاً بلا جسد ووقتى يقضم أظافري... وقفت لوهلة أتأمل جسدى وهو يسقط على الأرض فتهشم كالزجاج، نبتت على طرفى ظهرى أجنحة بيضاء وتحول اكليلى الى حلقة دائرية يشع منها نور، قرأت على روحى الفاتحة وارتفعت الى الرفيق الأعلى مجتثة معى طموحي... آمالي... بقايا دفاتر أشعارى وقلبى الحزين، وأما جسدى فقد تحوّل الى مكعبات تطايرت فى الهواء كالاعصار فتحولت الى نقود ورقية تُقدّر بــ 7000 ريال قطرى كبدل عمل اضافى فى جيب أحدهم مجاناً ويقطن مكتبه فى طابق ما فى تلك الوزارة المضطربة...