13 سبتمبر 2025

تسجيل

مغالطات ومفارقات خطاب الوداع الأخير

25 يناير 2012

المتأمل للخطاب الذي ألقاه علي عبد الله صالح والذي اعتبر بمثابة وداع لمنصبه بعد أن صار في حكم المؤكد أن الحكم سيؤول إلى نائبه عبد ربه منصور هادي يوم 21 من شهر فبراير القادم يكشف عن وجه آخر للرجل غير وجه الرئيس الذي حكم البلاد أكثر من 33 عاما بعد أن تمكنت الثورة الشعبية السلمية في جرفها له على طريقتها الخاصة كرابع رئيس في المنطقة العربية خلال عام. لا يملك الإنسان إلا أن يذعن لقول الله سبحانه في محكم التنزيل "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، فربما قبل عام من هذا التاريخ فقط لم يكن صالح ليفكر مجرد التفكير في ترك الحكم ـ ولم يكن ليقبل بأقل من التوريث لابنه أحمد الذي كان يعدّه فعليا لخلافته، بعد أن استفاد هو وأضرابه من توريث حافظ الأسد لابنه بشار في سوريا كسابقة في النظم الجمهورية على المستوى العربي، أما اليوم فإنه مرغما يريد أن ينجو ببدنه فقط، ليكون عبرة وعظة لغيره من الحكام الفاسدين الظلمة. بين الأمس واليوم فرق واسع وبون شاسع، فبالأمس كانت اليمن بمثابة مزرعة لصالح ولأبنائه وأبناء أخيه وأقاربه وأعداد من أفراد عشيرته وبعض المقربين منه، يسرح هو وهم فيها ويمرحون كما يشاؤون، ويستنزفون خيراتها، ويعيثون فيها فسادا ماليا وإداريا وأمنيا، على حساب الشعب المسكين الذي كانت غالبيته تعيش من قلة الموت ـ كما يقال، كما كان الرجل هو وحاشيته وحزبه "المؤتمر" يخرقون الأرض طولا من عنجهيتهم وتعاملهم المستكبر مع المعارضة، ويزوّرون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ليبقى الرئيس المناضل على كرسي الحكم، وتبقى الأغلبية المريحة لحزبه تضمن له ولهم حتى تغيير الدستور في ما لو أرادوا ذلك. أما اليوم فقد تواضع الرجل الذي كان الناس يعتذرون له واعتذر من شعبه، وطلب العفو والصفح والمسامحة منهم عن سني حكمه الـ 33، واتضح أنه لم يكن ليقبل بالمبادرة، ولطالما سعى للمماطلة بشأنها، ولم يوقع عليها إلا بعد أن ضمن الحصانة لنفسه وأولاده وأقاربه. وتأملوا تاريخ الزعماء العرب هل كانوا يعرفون مفردات الاعتذار بل والاعتراف بحقوق شعوبهم قبل الربيع العربي في الحرية والتعبير عن أنفسهم واختيار من يريدون لتمثيلهم إلا من رحم الله؟! بالمقابل لم يشأ الرجل أن يتخلى عن المراوغة والمكر الذي عرف بهما طيلة سنوات إدارته للبلاد فاعتبر حصانة الرئيس "حصانة من شعبه " ـ وليست حصانة مبادرة أراد أن يضمن بها عدم محاكمته أو ملاحقته قانونيا عقب تركه للحكم ـ بسبب ما اعتبرها أنها جهود له في تنمية بلاده وبنائها من جديد واستخراج الثروات وتوحيد شطري اليمن، وما أدري عن أي بناء وتنمية لليمن يتحدث هذا الرجل وهو أحد عوامل تخلفها وإفقار أهلها. أما الوحدة التي لا ينكر أحد أن له دورا في قيامها فإنه كرّه شعبه في جنوب البلاد بها بعد مرور نحو عقد من الزمن على إقامتها بسبب ممارسات الفساد لمنظومة حكمه، وكانت سببا في علو نبرة النعرات المناطقية ومطالبة شرائح شعبية وحزبية بعودة الانفصال. كما أراد أن يظهر أنه من وقّع على قرار رحيله حرصا على أمن البلاد وسلامتها لصالح نائبه، والحال أن ذلك تمّ على طريقة " مكره أخوك لا بطل"، في ما لم يكن لنائبه أي دور أو صلاحيات تذكر طيلة فترة وجوده في منصبه، وحاول أن يلبس لبوس الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة حينما أشار إلى أنه سيعود من رحلته العلاجية لتنصيب (نائبه الحالي) وتسليم دار الرئاسة له، وأخذ حقيبته بعد توديع أصحاب الدار ليرحل إلى مسكنه الجديد، في حين أنه أرغم على ذلك بسبب الضغط الذي مارسته عليه ثورة الشعب ثم الاتفاقية الخليجية التي حاولت أن توجد له مخرجا آمنا. كما حاول صالح شدّ أزر أتباعه ممن عملوا معه في المناصب السياسية والعسكرية والأمنية والمؤتمر الشعبي الحاكم سابقا ومحاولة لمّ شعثهم من خلال مجالين الأول إيهامهم أن الحصانة الكاملة لا تخصّه وتخصّ أبناءه وأبناء أخيه وإنما تخص كل من عمل معه طوال 33 عاما وهذا غير صحيح، والآخر أنه سيعود ليقودهم ويقود حزبه، علما بأن المتوقع عمليا أن ينفرط عقد المؤتمر الشعبي شأنه شأن أي حزب حاكم، لأن كثيرين انتموا وانتسبوا إليه بسبب المنح والمنافع، ولأن الانشقاقات عنه بدأت منذ أن شعر أتباعه أنه زائل حتما منذ عدة أشهر، كما أن هناك توقعات بأن يستقر صالح في ما بقي من عمره في دولة مجاورة لبلاده. المهم أن حقبة علي صالح طويت وأن اليمن يدخل عهدا جديدا في ظل ربيع التغيير العربي.. وهنا لا بد من تسجيل ملاحظتين مهمتين على هذا الرحيل غير المأسوف عليه، الأولى تسجل لصالح أنه لم يكن دمويا وديكتاتوريا مقارنة بحكام زالوا أو ينتظرون دورهم في الزوال بإذن الله بقدر ما عرف عنه الفساد والمكر والخداع، كما أنه لم يذهب إلى آخر الخط على حساب مزيد من الجثث والأشلاء على طريقة "أنا أو الطوفان" كما هو القذافي على سبيل المثال، والأخرى أنه ربما لأول مرة في التاريخ يمنح حاكم متهم بجرائم ومسؤول عنها بصورة من الصور حصانة ضد جرائم اقترفها بصورة مقننة وبموافقة من ممثلي الشعب بمن فيهم معارضوه وهي مفارقة غير مسبوقة ربما تندرج في إطار الحكمة اليمنية.