19 سبتمبر 2025
تسجيليدور النقاش في كثير من الفعاليات بين كبار المسؤولين في الوكالات الأممية، حول انحسار الثقة عن دور الأمم المتحدة والمنظمات والوكالات التابعة لها على الساحة الدولية، ناهيك عن خطابات قادة ورؤساء الحكومات وكبار المسؤولين، الذين يطالبون خلالها في مناسبات مختلفة بضرورة إعادة ضبط دفة الأمم المتحدة وتفعيل دورها المهم في رعاية مصالح الدول والشعوب الأعضاء فيها، وإعادة صياغة نظام يضمن عدم الاستقطاب، مايعكس درجة من الإحباط في تلك الخطابات، في الوقت الذي يذهب فيه مسؤولو الوكالات الأممية إلى ضرورة إعادة الثقة بتلك الوكالات وتعزيز مكانتها وعكس واقعها الفعلي وإبراز صورتها الحقيقية التي تشوهت في مخيلة الشعوب، بحسب زعمهم. وأمام هذا الجدل، وبالنظر إلى رأي الشعوب، نجد أن شريحة كبيرة من الناس فقدت ثقتها تماما بمنظمات الأمم المتحدة ولم تعد تعوّل عليها في حلحلة قضاياها وإدارة أزماتها، كما لم تعد تنظر للمشكلة كمشكلة متعلقة بتشوه صورة المنظمات الدولية في ذهنية الشعوب، على القدر الذي تراها فيه مجرد واجهات لخدمة أغراض الدول العظمى وأدوات لتحقيق مصالح الدول القوية. إذا كيف يمكننا النظر لقضية تجسير تلك الهوة وسد الفجوة بين الواقع الموضوعي لكيان من الكيانات وما يحمله ذلك الكيان من صورة ذهنية عن نفسه في مقابل ما يحمله الأفراد في مخيلتهم من صورة، وإسقاط تلك القضية على جوانب مختلفة قد تصل إلى العمل الإداري المؤسسي وواقعنا اليومي. إن الصورة الذهنية تعد أمراً بالغ الأهمية في حقل الاتصال و الإعلام والدراسات الاجتماعية، ومن الأخطاء التي تقع فيها فئة كبيرة من القطاعات سواء المحلية وصولا للمنظمات الأممية والكيانات الدولية، هو التعويل على دور العلاقات العامة في تحسين تلك الصورة، والاعتقاد الراسخ أن أي تشوه للصورة الذهنية لدى الشرائح المستهدفة مرده إلى الفشل في تحقيق الاتصال الفعال ولا يُرد في الغالب إلى الفشل في وضع السياسات أو تطبيقها، وهو الأمر الذي يعتبر فهما جزئيا ومخلا لدور الاتصال والعلاقات العامة في تحسين الصورة الذهنية. يترتب على ذلك أن محاولات وجهود تجسير الفجوة تنصب في غالبها على جوانب تعزيز وتقوية الاتصال والدعاية، عوضا عن تحقيق النقد الذاتي وإعادة النظر بموضوعية للسياسات ولآلية تطبيق تلك السياسات، الأمر الذي يكسب شركات العلاقات العامة ويثخن جيوبها، دون تحقيق فائدة تذكر للجهات المعنية ولصورتها المشوهة، إذ لابد أن تترافق جهود تحسين الصورة الذهنية مع إجراءات فعلية على أرض الواقع، وعدم التعويل على النشاط الدعائي (وهو الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون) في جهود تحسين تلك الصورة. إن القصور الذي يكتنف وظيفة وكالات الأمم المتحدة والشبهات التي تحوم حول كثير من قراراتها يشي بأن الصورة المنطبعة في مخيلة الكثيرين صحيحة جزئيا، وحتى مع الإقرار بالدور الفعال الذي تلعبه الأمم المتحدة في مختلف القضايا والملفات، واعترافنا أن وجودها بعلاته خير لنا من غيابها، إلا أن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً، فالدور المنوط بها وللمنظمات والوكالات التابعة لها وأمام ما يقدم لها من دعم وما ينص عليه ميثاقها يرفع سقف التوقع ويناقض ما يتم تقديمه على أرض الواقع، ويجعل أي حسنة تقوم بها تلك المنظمات أمراً عادياً ومتوقعاً. لقد واجهت الأمم المتحدة ولاتزال عدداً من شبهات الفساد التي اتهم موظفوها بارتكابها، ومع الإقرار بحدوث تلك الإخفاقات والتجاوزات حتى في أكثر الأنظمة صرامة وانضباطا، لأن العمل الإنساني بطبيعته مشوب بالقصور، إلا أن تلك الملفات الشائكة تعطي صورة واضحة عن الأزمة التي تعيشها المنظمة بعد أن شاخت ومضى شبابها وولجت إلى سن اليأس، ما يتطلب التعامل مع الأمر بصورة أكثر واقعية. في عام 2019 واجهت منظمة الصحة العالمية تهماً خطيرة تتعلق باختلاس موظفي مكتب بعثتها الإغاثية في اليمن لأموال المساعدات التي وصلت لملايين الدولارات والتلاعب بكشوف الرواتب وضياع أطنان من الأدوية والوقود المتبرع بهم، وأمام انهيار النظام الصحي في اليمن ووضع المجاعة وموت الأطفال جوعا ومرضا، وبالنظر لتلك التهم المتعلقة بالسرقة التي ارتكبت من قبل من كان يفترض بهم إغاثة أطفال اليمن، يمكن تفهم إحباط الشعوب وسأم المانحين وشعورهم بعدم جدوى إسهاماتهم، وأن الأمر لم يعد يتعلق بجهود تحسين الصورة، بل بما هو أكبر من ذلك ما يتطلب من المنظمة المواجهة الجادة لهذا الأمر. هذا فضلا عن الخلل الذي يشوب عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وتهم الفساد التي تواجه موظفيها فيما يتعلق بتوزيع أموال المساعدات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكننا تلمس إخفاقات هيئات الأمم المتحدة، والهيئات الأممية الأخرى في عدد من الملفات، وتسيسها لقضايا حقوق الإنسان واستخدام سلطتها الرقابية للضغط على دول وغض الطرف تماماً عن ملفات أكثر أهمية وأكثر حساسية، وآخرها ما صرحت به منظمة (هيومان رايتس ووتش) على اثر قضية مطار حمد الدولي -والتي أجرت فيه دولة قطر تحقيقاً واتخذت بشأنه إجراءات قانونية صارمة-، حيث طالبت المنظمة من دولة قطر الحفاظ على حقوق الشواذ والسماح للنساء بالولادة خارج إطار الزواج، دون أن تتطرق للطفلة المرمية في دورات المياه! فأي حقوق إنسان تلك؟ الشبهات والتهم التي يواجهها عمل المنظمات الدولية لا يمكن حصرها في المقال، ناهيك عن التهم والتشكيك الذي واجه منظمة الصحة العالمية هذا العام وطريقة تعاطيها مع أزمة انتشار وباء كورونا. صحيح أن كثيراً من تلك التهم لم تكن سوى محض افتراء وادعاء أو سوء فهم، لكن في الوقت ذاته فإن كثيراً من التهم التي وُجّهت للمنظمة في هذا الشأن تستحق الوقوف عليها وعدم تجاوزها وتسخيفها. وبالعودة إلى تاريخ تأسيس منظمة الأمم المتحدة نجد أنها تأسست على أنقاض عصبة الأمم المتحدة بعد فشل الأخيرة في حل النزاعات والخلافات بين دول القارة العجوز، والتي تمخضت في النهاية عن الحرب العالمية الثانية، ولأن التاريخ يدونه المنتصر، قامت قوات الحلفاء المنتصرة في تلك الحرب بتأسيس الأمم المتحدة، إذا.. فالأمم المتحدة ليست حيلة الضعيف ليتعايش مع القوي، بل هي حيلة القوي ليخضع الضعيف دون كثير عناء ودون كبير جهد. ربما يراودنا الاعتقاد أن إنسان العصر الحديث بلغ مرحلة متقدمة من النضوج والاستنارة أو أنه بلغ أقصى درجات الوعي والتقدم، إلا أن الشواهد من حولنا تنبؤنا وبكل أسف أننا لم نبلغ تلك المرحلة بعد، وأن الطريق أمامنا قد يطول لبلوغ تلك المرحلة، وبالرغم من التطور والتقدم الذي نشهده، إلا أن التسلح النووي في أوجه، واحتمالية نشوب الحروب المدمرة التي ربما تقضي على الحضارة قائمة، فضلا عن التدمير البيئي الذي يقوم به الإنسان، وفي الوقت الذي تغلف فيه الدول القوية سلوكها بغلاف التحضر والتطور والتقدم والعيش المشترك، بصياغة المواثيق الأممية وسن القوانين الدولية، وارتداء البدل الرسمية الأنيقة، نجد أن ما يخفيه ذلك الغلاف سلوك معاكس تماماً للواقع، فلا تزال العلاقات الدولية يحكمها قانون القوة عوضاً عن قوة القانون، وأبرز مثال على ذلك حق الفيتو الذي تمتلكه الدول العظمى القوية دائمة العضوية في مجلس الأمن، وعلى الرغم من أن ميثاق الأمم المتحدة يورد هذا الحق كحق "للاعتراض"، إلا أن واقع الحال يثبت أن هذا الحق يستخدم كأداة "لإجهاض" وإفشال أي مشروع يقدم لمجلس الأمن حتى وإن وافقت عليه باقي الدول، دون إبداء سبب، كأن لسان حالها يقول (الديمقراطية ان تدع الجميع يتحدث ثم تفعل ما تريد). فهل يمكننا الشك بعد ذلك أن آلية إدارة العلاقات الدولية رغم تقدمها وانعكاساتها الإيجابية على واقعنا، قد استنفذت أغراضها، ووصلت إلى مرحلة لابد معها من إجراء التصحيح وتقويم المسار، وهل نعتبر من الدرس التاريخي الذي أثبت أن القوة التي كانت تميز الامبراطوريات لم تضمن لها طول البقاء، وانهارت تلك الامبراطوريات وغابت الشمس عن الأرض التي كانت لا تغيب عنها، وسيثبت التاريخ أيضا أن القوة المغلفة بالدبلوماسية ستفشل أيضا في تحقيق الكسب المشترك والتعايش السلمي، وأنه لابد من تصحيح المسار وعدم التعويل على القوة والجبروت، وعدم استصغار الدول صغيرة المساحة محدودة الإمكانات، لأن التاريخ أثبت أن الضخامة والتمدد كان سبباً في انهيار الامبراطوريات، وأن النملة الصغيرة ربما تزعج الفيل الضخم.