16 سبتمبر 2025
تسجيل"الفيل في الغرفة" عبارة مجازية تستخدم في اللغة الانجليزية للدلالة على مشكلة واضحة وكبيرة، يتم تجاهلها وعدم التطرق لها، ويستعاض عن ذلك بالحديث عن قضايا قد تكون هامشية وأقل أهمية. هذا المثال ينطبق على الوضع الخليجي في كثير من الأوجه، فبالنظر إلى غالبية القضايا التي تشغل الرأي العام الخليجي، نجد أن كماً يسيراً منها يمكن اعتباره قضايا جوهرية، في حين أن البقية الباقية ما هي إلا نتائج وأعراض لقضايا كان الأجدر بها أن تتصدر الاهتمام والمعالجة، إلا أنها كانت "فيلاً في الغرفة" لم يره أحد حتى دهسنا بأقدامه. من القضايا التي أخذت بالتضخم وشغل الرأي العام الخليجي قضية النسوية، وبعيداً عن التنميط، لو سألنا أنفسنا.. هل تعد تلك القضية من القضايا المهمة والجوهرية؟ سنجد أنها كذلك، ولكن.. كيف يتم تناولها وبحثها؟ هذا هو السؤال الأجدر بالطرح. إن التطرق لموضوع كموضوع النسوية بالنقد والتحليل يعد تحدياً كبيراً، كونه من الموضوعات التي تكون فيها المواقف والأحكام على طرفي نقيض، وقد يتهم من يتطرق لها بمناهضة النسوية، أو العكس، وبكل سهولة، إلا أن القضية آخذة في التضخم ككرة الثلج، ولابد من طرحها على طاولة النقاش. بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2001 أتذكر تلك المشاهد التي بثت على القنوات الإخبارية لنساء أفغانيات ينزعن عن وجوههن "الباروكا" وهو اللباس الأزرق الذي ترتديه النسوة هناك لتغطية أجسادهن من رؤوسهن حتى أخمص أقدامهن، سوى فتحة صغيرة عند العينين مغطاة بالشباك تسمح بالرؤية ونفاذ النور، وقد أثارت تلك اللقطات إعجاب البعض وسخط آخرين، ولكن بعيداً عن وجهات النظر المتباينة حول تلك المشاهد ومدلولاتها وهل كانت حقيقية أم مفبركة، السؤال هو: ماذا حقق الأمريكان للمرأة الأفغانية بعد كشف وجهها وإظهاره على شاشات التلفزة؟ هل انتشلتهن من الفقر إلى الغنى ومن الجهل إلى النور، وكأن ما يغطي جسد المرأة الأفغانية هو مشكلتها الوحيدة، أم أنها رمزية لم تؤت أكلها واستفزت الأفغان وأخرجت المارد من القمقم. لقد خاضت الولايات المتحدة بعد تلك المشاهد حرباً استمرت 19 عاماً مع حركة طالبان، إلى أن أثمرت جهود الدوحة في احتوائها وبدء المفاوضات التي أفضت إلى اتفاق تاريخي بين واشنطن وطالبان تضمن بنوداً كثيرة، منها ما هو متعلق بحقوق المرأة، ولكن وفق الرؤية الأفغانية هذه المرة. يعاني الغرب في تناوله لقضايا المرأة وحقوقها في منطقتنا من إشكالية أزلية ومستمره، وهي اختزال حقوق المرأة في الحجاب والنقاب والجلباب، والتركيز على المظهر الخارجي وتسطيح المفاهيم الحقوقية وإبراز نماذج سطحية وممجوجة ومنفرة، فقد تكررت مسرحية خلع الحجاب في كثير من الأقطار كتونس ومصر، فهل تحقق أي تقدم على أرض الواقع؟ ثم إنه ينبغي لنا عدم إغفال أن القضية أعمق وأكبر من حقوق المرأة وانتهاكها فقط، فما يحدث الآن تشويه متعمد لمسائل حساسة، فحقوق الإنسان الأساسية تنتهك في كثير من الدول وسط مناداة بحقوق المرأة! أليس الأجدر بنا الحديث عن الإنسان بكليته وكينونته بدل التشويه وتحريف الحقائق، وكأن عالمنا العربي تجاوز كافة الإشكالات المتعلقة بكافة الحقوق ولم يتبق له سوى حقوق المرأة ليطالب بها. إن الغرب يعاني من سوء فهم لقضايا حقوق المرأة، فما زال يظن أن الحجاب والنقاب والمظهر الخارجي للمرأة هي العائق أمام تحقيق التنوير الداخلي، ناسين أو متناسين دور الثقافة في تحديد الهوية التي لم يحترمها الغرب ولم يلق لها بالاً، معتقداً أن النموذج الغربي هو النموذج القياسي في كل شيء من لباس ومأكل ومشرب، فهل قَصَف الحجاب رؤوس فتيات اليمن، أم هي الصواريخ التي تلقى على رؤوسهن وسط صمت دولي رهيب، وهل ما قض مضاجع نساء أفغانستان الثكالى هو ارتداء الحجاب والنقاب، أم القنابل التي قتلت الأبرياء وأهلكت الحرث والنسل؟. إن التشويه المتعمد والمخل الذي مارسه الغرب وجد آذاناً صاغية من قبل البعض ونفّر البعض الآخر، وخلق هوة متسعة بين أطياف المجتمع الخليجي، فإما أن تكون مناصراً للمرأة وحقوقها أو ذكورياً مقيتاً، وإما أن تكوني نسوية متحررة أو رجعية متخلفة تعيش في جلباب زوجها، تلك الثنائية المتطرفة أدت إلى تأثيرات سلبية بالغة على المطالبات النسوية والتنفير منها، في مقابل طمس للحقوق المشروعة أو المطالبات الممكنة في إطار موضوعي، فهل تحققت الغاية النسوية بهروب فتاة مراهقة من ذويها واستقبالها بحفاوة في دول الغرب وتصويرها بصورة المناضلة والبطلة؟، وهل خلع الحجاب أو إظهار الأفخاذ هو الغاية الأسمى التي جنتها المطالبات النسوية؟! أم أنه تسطيح للمفاهيم بشكل فج ومبالغ فيه؟ ثم لماذا لا تحتضن تلك الدول سوى نماذج نسوية محددة، وتحرضهن على الهرب كأن الأمر يتم بتعمد واستهداف، لماذا لم نر منقبة تُستقبل بحفاوة بسبب هربها من الظلم والاضطهاد أو لمطالبتها بحرية البحث العلمي مثلا؟. وبالعودة إلى بعض النقاط الجوهرية في المطالبات النسوية، دعونا نأخذ قضية التعنيف أو الاضطهاد والتنمر الأسري على سبيل المثال، وهو بلا شك أمر خاطئ ومرفوض وغير مقبول، ولكن لو تناولنا القضية من زاوية أخرى، ونظرنا إلى أسلوب المجتمع العربي والدور التربوي المنوط بالأسرة، سوف نجد أن هناك مستوى من العنف الأسري في التعامل مع الذكر أو الأنثى، على حد سواء، وقس على ذلك كثيراً من الجوانب في مجتمعنا العربي والخليجي، فالقضية ليست محصورة في ثنائية الذكر والأنثى، بل هي أكبر من ذلك بكثير وتتعلق بغياب تام لفلسفة التربية. وثمة أمر آخر، هو أن الحركة النسوية التي نشطت في الغرب، بنيت أساساً على المساواة بين الجنسين بغية تحقيق العدالة، وعلى اعتبار أن المرأة مساوية للرجل في الحقوق والواجبات وبناءً عليه فهي مستحقة لكافة الامتيازات، ولها الحق بأن تعامل مثل الرجل تماماً، كما أن المطالبات النسوية تركزت على جانب الفروقات البيولوجية بين الرجل والمرأة وأنها ليست حائلاً بين المرأة وحقوقها ولا سبباً لاضطهادها، وعند مقارنة المفاهيم الغربية بالمطالبات النسوية الخليجية نجد أن المسألة النسوية في الخليج تشوبها الانتقائية، فما زالت المرأة الخليجية في كثير من الأحيان تنظر إلى نفسها بنظرة مختلفة وتختار لنفسها من الخصوصية والتميز والاختلاف ما تشاء وتنبذ ما تشاء، أليست تلك قسمة ضيزى؟. من جهة أخرى، تواجه الحركة النسوية في الأوساط الخليجية في كثير من الأحيان معارضة عنيفة من قبل الرجل والذي يُرَد في الغالب إلى العامل الذكوري وهيمنته، وقد يكون ذلك صحيحاً في جزء منه، ولكن لماذا ننسى أو نتناسى ما تعاني منه مجتمعاتنا من ضيق الهامش في مسألة تقبل الآراء، لماذا تضيق النسويات ذرعاً بتلك المعارضة، في حين أن القضية متعلقة برفض الآخر ورفض كل ما يزعزع معتقدات المجتمع وقناعاته حول مختلف القضايا. الخلاصة هي أن كثيراً من المطالبات النسوية مشروعة، وكثير منها يمكن نقاشها وفق أسس موضوعية وفي سياقات محددة، أما أن يتم خلط الحابل بالنابل والاستنجاد بمنظمات غربية والارتماء في أحضان دول لا هم لها إلا ابتزازنا وتحريض المراهقات ضد أهاليهن وحثهن على التمرد واستقبالهن ليتسكعن في شوارع أوروبا ويظهرن عبر الإعلام بأنهن حققن انتصارات وإنجازات هائلة لمجرد خلع الحجاب أو العباءة أو حلق الشعر وتغيير التصفيفة!!، في حين لم تلتفت تلك الدول لنسائها اللاتي يعرضن أجسادهن في فاترينات وواجهات المحلات، أو لتلكم النسوة اللاتي ينمن على الأرصفة وهن الأجدر بالمساعدة والإنقاذ، بدل أن تتقاضى منهن تلك الدول الضرائب لقاء ما يتحصلن عليه من بيع أجسادهن بسبب الفقر والحاجة.