30 أكتوبر 2025
تسجيلانتابني شعور مزدوج وأنا أتابع العرض الأول للحلقة الخاصة من برنامج "تحت المجهر" ، وكانت بعنوان "أقوى من الكلام" ، الأول شعور ارتياح: لأنني تمكّنت من الاقتراب إلى عالم شريحة من شرائح ذوي الاحتياجات الخاصة، من خلال عمل مهنيّ متميز، يصوّر جوانب حياتهم، بكل تفاصيلها الإنسانية، من فرح وحزن وحبّ وتضحية وحلم وطموح وتعاون وتطلع.. ولأن هناك تناميا في اهتمام وسائل الإعلام العربية بهذه الشريحة، وإن كان الاهتمام مازال محدودا. وللشراكة بين العملين الإنساني والإعلامي معا ، نظرا لأهميتهما في التوعية والمؤازرة، وحشد الدعم المالي للأعمال تخدم الفئات الضعيفة.والآخر شعور بالألم: لأننا على المستوى الإنساني الشخصي، مازلنا نضع حواجز بيننا وبين ذوي الاحتياجات الخاصة، نتهم الصمّ بالانطواء والعزلة والتقوقع، ونحن من نجعل بيننا وبينهم حاجزا، وربما سدّا أو سدوداً، دون أن نعيرهم الاهتمام الكافي، ونفسح لهم المجال للاستماع إلى همومهم ومعاناتهم وتطلعاتهم ..وهذا مستخلص من المداخلة المسجلة لمخرج الحلقة، الذي كان على تماسّ مباشر بالصم، حتى تم أنجاز هذه الحلقة المتميزة. يتضح من الفيلم حجم المعاناة لشريحة الصمّ في عالمنا العربي والعالم النامي، وكيف تحول الظروف المحيطة بهم، وعدم الاهتمام الكافي بأوضاعهم، وإيجاد الحلول المناسبة للتحديات التي تواجههم اجتماعيا واقتصاديا وتعليميا.. فقد كان واضحا الصعوبات التي تنتصب أمام حاجتهم الفطرية للزواج شبابا وشابات، وإنشاء أسر يسكنون إليها، وإلى تعليم هم حق لهم كما لغيرهم، وإلى أنشطة ترفيهية وبخاصة للأطفال، وإلى أعمال يعتاشون منها، لتأمين حياة كريمة لهم، دون أن يكونوا عالة على غيرهم . لقد كانت صرخة الصمّ للناطقين من بني البشر في الفيلم، أننا مثلكم تماما حتى لو حرمنا إحدى النعم التي تتمتعون بها ، وأن لنا عقولا نفكر بها وإرادات وعزيمة تسكننا، وأنّ من حقنا أن نتمتع في الحياة، وأن نحقق فيها أحلامنا مثلنا مثلكم تماما. وبدا واضحا أن مشكلة الحصار والعدوان، فضلا عن الفقر والبطالة، في منطقة كغزة تضاعف من معاناتهم، وهو ما يحتاج اهتماما أكبر من الجهات ذات العلاقة، سواء كانت رسمية أم منظمات مجتمع مدني من خلال برامج ومشاريع تخصص لهم. ولمساحة الاهتمام المحدودة إعلاميا وخبريا وخدماتيا ، لاسيما وأن بإمكان وسائل الإعلام فعل الكثير، فيما الحاجة أكبر لهذا التكاتف بين الجانبين، كمّاً ونوعاً. تفخر شبكة الجزيرة ـ ومن حقها ذلك ـ أنها أول منبر إعلامي عربي يوفّر خدمة النشرات الإخبارية بلغة الإشارة، بالإضافة إلى إصدارها لأول قاموس عربي للصمّ. كما يوفر مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير التابع لها دورات تدريبية لتعليم لغة الإشارة لموظفي الجزيرة والجمهور المهتم. فضلا عن تخصيص أسبوع ( من الآن حتى نهاية الشهر )، تسلط فيه الضوء بشاشتها وموقعها الإلكتروني الضوء على أبرز التحديات والمصاعب التي تواجه مجتمع الصم في العالم العربي ضمن تغطية إخبارية مكثفة، ومنه هذه الحلقة المتيزة من " تحت المجهر" ، كما يسعى موقع " الجزيرة نت" تدشين خدمة متميزة، يحوّل بها الكلام المسموع إلى مقروء، وهو ما سيعني خدمة رائعة ونوعية متميزة للصمّ في عالمنا العربي. ولكن يبقى أن هذه الانجازات على أهميتها قد لا تشكل إلا نزرا يسيرا من الحاجات الإعلامية لهذه الشريحة، كما لايمثّل جهد الجزيرة إلا مساحة محدودة مما ينبغي على وسائل الإعلام العربية فعله كواجب أخلاقي ومهني. تحتاج المؤسسات الخيرية من جهة والمؤسسات الإعلامية من جهة أخرى إلى مثل هذه الشراكات، التي تخدم الشريحة المستهدفة وتعظّم الفوائد لصالحها، ووفقا لهذه الشراكة فقد تمّ التركيز بصورة أكثر تركيزا على التوعية بهذه الشريحة، وضرورة تقديم كل عون مادي ومعنوي ولوجستي ممكن لها ، وبنفس الوقت فقد خرج الملتقى، بتعهدات لتمويل مشاريع لصالح الصمّ في غزة بمبلغ 17 مليون ريال ، وأتاح المجال للجمعيات الخيرية والإنسانية المعنية بالصم في غزة لطرح برامجها ومشاريعها ، والتعريف بحجم الإشكالات في هذا القطاع.من الخطأ أن يقال ما دخل وسائل الإعلام بالعمل الإنساني أعمالا تلفزيونية وإبداعية وفعاليات ؟ .. فالمسؤولية الاجتماعية تفرض على جميع المؤسسات والهيئات والجهات أن يتدخلوا في هذا الشأن، وعدم الاكتفاء بنقل الأحداث في الميدان، ببعدها الإنساني، أو تغطية الكوارث والحروب والنزاعات، بل ينبغي أن تهتم في التوعية بالقضايا الإنسانية، وحفز متابعيها على السلوك الإيجابي.. وبكل تأكيد سيكون لحملات وسائل الإعلام ومنها المقروءة والمسموعة والمرئية تأثيرا أكبر فيما لو عقدت شراكات وعلاقات تعاون مع الجمعيات والمؤسسات التطوعية، ودعمت أعمالها الإعلامية بجهود المعنيين في العمل الإنساني، كما حدث في هذا الملتقى . كما أن على المؤسسات الخيرية أن تولي الجانب الإعلامي اهتماما أكبر ، وإلا يقتصر ذلك على تسويق مشاريعها بصورة مباشرة، بل يفترض أن تهتم بالتوعية والمناصرة والحشد ، وغرس قيم العمل التطوعي ونشر ثقافته في المجتمع. الملتقى يوجّه رسالة لكل من مؤسسات الإعلام والهيئات الطوعية ومنظمات المجتمع المدني ليعززوا التعاون بينهم، فهو كسب عظيم لأدائهم المهني، وكسب للشرائح التي يتوجهون إليها وللمقاصد الإنسانية التي يسعون إليها، وأن يعمّقوا البحث في الآليات التي تدعم هذه التوجهات .