16 سبتمبر 2025
تسجيلكيمياء التطرف تتمثل في تماهي العقيدة مع الذات، بحيث تصبح هي الذات، ويصبح بالتالي تعاطي أي نقد أو مخالفة لهذه العقيدة يتم على أساس أنه موجه إلى الذات. فالمتطرف لا يرى تلك المسافة الضرورية التي تفصل بين الذات الإنسانية المتمثلة في خلق الله أجمعين وبين العقيدة التي يتبناها هو وقد لا يتبناها غيره من الناس، بل من الواقع جداً أن لا يعتنق الجميع العقيدة الواحدة نفسها، لأن سنة الله تقتضي الاختلاف، فتراه يثور عندما يحاور أو يسمع لمن يخالف عقيدته أو لا يضمر إنسانية لمن يرى أنه يعتنق عقيدة أخرى، فيصبح الأمر لديه قضية وجود، ولأن قدرته على التحمل أو معايشة أصحاب العقيدة الأخرى ضئيلة، ولأنه يرى في ذلك فناء لذاته وتلاشياً لها، فإنه يسعى إلى إلغاء الآخرين وحقهم في الاختلاف بشتى السبل المتاحة، فيقصي إذا أمكن الإقصاء ويسفك الدماء إذا تطلب الأمر ذلك. فناء الذات في العقيدة هو كيمياء التطرف التي يجب إيقاف تبلورها أو اشتعالها أو على الأقل تفكيك جزئياتها بشكل أو بآخر، ثمة وسائل عديدة لإنجاز ذلك، منها أو من أهمها اللجوء إلى الأسبقية التاريخية لوجود كل من الذات والعقيدة والتركيز على أن الذات هي الأساس أو هي صاحبة الأسبقية، ثم يأتي تبني الإنسان للعقيدة بمعنى آخر هو أن يولد الإنسان ذاتاً ومن ثم يتبنى العقيدة أو المنهج الذي يقتنع به أو بها وللعوامل الاجتماعية والثقافية وحتى الجغرافيا تأثير في ذلك، فالإنسان منتوج اجتماعي كما يرى البعض. وبالتالي للذات الإنسانية صفات تميزها عن غيرها من الذوات الأخرى المخلوقة، فهي إنسانية الطابع أي أنها تقبل التعايش، وإن كان ثمة اختلاف في اللون أو في اللسان أو الشكل، ولكن الطابع الإنساني جامع لما تحته من خصائص اختلافية صغرى. فمن الضرورة أو من مستلزمات الوعي الطبيعي أن لا تغير العقيدة المتبناة من هذه القابلية الإنسانية للتعايش، بمعنى آخر أن تحافظ هذه العقيدة على إنسانية الذات وحريتها في الاختيار وإن بنت فوقها رؤيتها المختلفة وتصورها للكون ولها كل الحق في الدفاع عن ذلك والاستماتة في ذلك أيضاً بشرط أن لا تفرط أو تغفل عن الأساس في حرمة الذات الإنسانية وأحقيتها في الوجود والتواجد وحرية الاختيار. التراكم والفهم التاريخي الذي أدى إلى فناء الذات في العقيدة هو الكيمياء التي يخرج بها المتطرف من المختبر، فيرى العالم بشكل أحادي وضيق، فلا إنسانية دون ما يعتقده ولا عقيدة غير تلك التي تخرج مع أنفاسه، والعالم بالنسبة إليه بؤرة ضيقة لا تحتمل الغير المختلف. إن إشكالية التطرف هي في كونه يبدأ بالبعيد ثم يأتي على القريب، فالذوات الأخرى تنكمش باستمرار لينفرد المتطرف وحده ذاتاً وعقيدة، كنت أرى وما زلت أن عملية التدريس يجب أن ترتكز على أكثر من مستوى يأتي في مقدمتها المستوى الإنساني ومن ثم المستوى الديني والاجتماعي، فاختلاف المدارس والمناهج على أشكالها من الضرورة أن لا يخرج عن ذلك، فلا يأتي أصحاب مدرسة بعينها بأولوية خاصة بها تجعل من المستوى الديني يلغي ما بعده أو أخرى ترى في البعد الاجتماعي الطبقي أو الإثني أولوية على المستوى الإنساني مثلا. لا انفكاك من خطورة التطرف إلا بإدراك المسافة بين الذات الإنسانية التي كرمها الله، والذي امتلك وحده إعادتها إليه وبين ما تعتقد به أو تتبناه، وإن بداية تطرفها يبدأ في تماهيها مع ما تعتقد بشكل ينسيها أصلها الإنساني أو قاسمها المشترك مع سائر البشر أو بني الإنسان عامة وقد يجنح بها ذلك إلى شاطئ الإقصاء الذي يرى في الآخرين ذوات لا تستحق الحياة لا لشيء إلا كونهم مختلفين، وفي ذلك تجنٍ على ما جاءت به جميع الأديان والرسالات بل وتمرد على أمر الله بتكريم الإنسان وحريته في الاختيار وبيان قدرة الله وعظمته في خلق هذا التنوع والاختلاف، حيث لو شاء سبحانه لجعلنا أمة واحدة، ولكن حكمته أكبر من أن يحتويها أو يدركها عقل مخلوق أو بصيرة بشر.