01 نوفمبر 2025
تسجيليحتوي إعلامنا على عناكب خفية لا يراها الناس كما يرون البغال والجمال والذباب ومندوبي المبيعات ومحصلي التذاكر، ولكن آثارها تظهر وتتجلى فيما تهجم به علينا هذه القناة أو تلك من تلك القنوات التي تكاثرت تكاثر الشياطين الزرق في الحمامات العامة، وتفاجئنا تلك العناكب من حين لآخر بضيوف على الفضائيات ذوي ألسنة مِراض وأقفاءٍ عِراض، يخوضون في الشأن العام بكل بجاحة وهم أجهل من الجهل نفسه، ومن أفكار هؤلاء المرضى المتخلفين يتخلق رأي عام زائف حول كثير من قضايا الأمة، ولست أفتقر إلى شجاعة عرض أسمائهم ولكني أضن بوقتي وقلمي أن أنشغل به بأمثال تلك الشرذمة من المرتزقة البلهاء.على أنني لا أقف بهذا المصطلح الشبابي الساخر (افتكاسات) عند حدود ما يتقيأ أزلام الضيوف في برامجهم الضحلة وأمام مذيعين ومذيعات جُوف يحاورونهم بانبهار كما لو كانوا يفهمون!!وإنما أنطلق بمصطلح الافتكاس هذا إلى جانبٍ فنّيٍ، يحيرني كثيرا ولا تسيغه النفس، وهو هذا المنظر السخيف لمذيع ومذيعة يقفان جنبا إلى جنب حين بدآ قراءتهما لنشرة الأخبار في القناة الأولى، ويقرآن العناوين وبعض الأخبار وقوفا ثم يجلسان!! أريد أن يتكرم أحد علينا بشرح (الفلسفة) العميقة التي يعتمد عليها (الفكر الجديد) الذي افتكس هذه الافتكاسة؟ وماذا عليهم وماذا على مشاهديهم من بأس لو أنهم كانوا جالسين طوال القراءة؟ وما الذي يضير قارئ (فشرة) الأخبار لو قرأها جالسا؟ الناحية الثانية أن لنشرة الأخبار في القناة الأولى أهمية كبرى لدى تسعين بالمائة من شعب مصر، ويجب ألا يزيد مداها الزمني عن ربع ساعة حتى ينصرف الناس إلى أشغالهم، أو إلى ما يتابعونه هنا وهناك. أما أن تُثقَل بهذه التقارير الفضفاضة المملة الموغلة في التفاصيل، وأما أن يستضاف لها ضيوف يسرفون في التحليل والتعليق والحوار في أواسط النشرة، فهذا كله عبثٌ عابث، وافتكاسات غريبة مريبة لا مسوِّغ لها.فمثلا شاهدت في نشرة التاسعة يوم الشهيد (الجمعة 9 مارس 2012) أحد أعضاء المكتب الفني لشيخ الأزهر، وقد جيء به ليقرأ صفحة مكتوبة – في وسط النشرة!! – فتحدث الرجل فأخطأ في اللغة مرتين حين قال (في هذا اليوم نَهدي للشهداء.....) قرأها مرتين بفتح النون والمضارع (نهدي) إذا فتحت نونه صار من الهداية، وهو يقصد (نُهدي) بضم النون من الإهداء. ثم استشهد الشيخ للتدليل على منزلة الشهداء بقوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [ آل عمران / 140].وقصد الشيخ بهذا أن كلمة (شهداء) في الآية مقصود بها جمع شهيد بمعنى المجاهد حتى الموت. والسياق أريد به أن تكون جمعا لشاهد، وجاء في تفسير الألوسي لهذه الآية: "... وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء أحد كما قاله الحسن وقتادة وابن إسحاق، و«من» ابتدائية أو تبعيضية متعلقة- بيتخذ- أو بمحذوف وقع حالا من شُهَداءَ، وقيل: جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة، و«من» على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ". وبائقة أخرى من بوائق الفضائيات في فشراتها الإخبارية، وهي بائقة شديدة الوطأة على نفوس الشرفاء من كل أنحاء مصر، فحين يراد أخذ رأي الناس في موضوع من الموضوعات أو موقف من المواقف أو قضية من القضايا، يخرج المراسلون بآلات التصوير فيعمدون إلى عينة من البشر تضم الفئات المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ممن يستسهل المراسلون مقابلتهم، ثم يتركون أولئك يتحدثون ولا يظهر لنا سؤال المراسل ولا كيف سأله فتنفجر تلك الفئات منفعلة مرة ومنفلتة مرة فيكون منظرها مضحكا حينا ومبكيا حينا آخر، فهل ظهور المراسلين عورة يجب أن تُستَر؟ وهل هذه الفئات – في كل مرة- هي كل المجتمع المصري؟ إنهم جميعا من سكان القاهرة، ومن سكان قطعة من شارع واحد بالقاهرة؟ أفهذه هي مصر؟ أم أن هذا تدليس خائب، وجهل وراؤه مصائب؟لماذا يجب أن نضحك؟ إذا كانت اجتهادات العلماء في محاولة تفسير الضحك قد باءت بالازدراء، فإن الحجج التي قدموها لإقناعنا بأهمية الضحك والفكاهة في حياتنا حظيت بالقبول لأنها تلبي الحاجات النفسية والفسيولوجية للإنسان، ولا حاجة بنا هنا لاستعراض " الحجج " الطبية التي قدمها علماء الصحة في هذا الصدد من حيث فائدة الضحك في تنشيط الدورة الدموية وما يتصل بذلك من انقباض وانبساط عضلات الوجه في حالتي السرور والحزن فكل ذلك مبسوط في المقالات والأبحاث العلمية المتخصصة. ولكننا هنا نتوقف أمام تفسيرين غريبين لأهمية الضحك: الأول: مستقى من الفلكلور الصيني الذي يحتفظ بأقصوصة ملخصها أن أحد العلماء بعد أن بلغ السبعين من عمره رزقه الله تعالى بطفل فكأنه رأى فيه مكافأة له على جهاده طوال عمره المديد فأسماه (العمر) وفي العام التالي رزق بمولود آخر تبدو عليه أمارات الذكاء فأسماه (التعليم) ولم يكد العام يمر حتى رزق بمولود ثالث فضحك كثيراً من عجائب القدر الذي أتاح له أن يكون أباً لثلاثة أطفال وهو في مرحلة توديع الحياة وخطرت له – وهو يضحك – خاطرة عجيبة هي أن يسمي ابنه الثالث هذا (الفكاهة). وتقدمت السن بالعالم الكبير حتى كبر أولاده، وذات يوم خرجوا جميعاً إلى الجبال ليحتطبوا فلما عادوا سأل الرجل زوجته عن كمية الحطب التي أحضرها كل منهم فقال زوجته: "لقد عاد "العمر " بحفنة من الحطب، أما " التعليم " فلم يعد بأي شيء، ولكن " الفكاهة " عاد بكومة كبيرة من الحطب ". ومغزى هذه القصة/الأسطورة واضح فهي تشير إلى أن الحياة العادية الرتيبة (العمر) ذات عائد قليل، وأن (التعليم) في ذاته لا طائل من ورائه وأن الحياة المرحة (الفكاهة) هي الأكثر جدوى وحيوية. وبتعبير العالم السويدي كريستوفر شبير أستاذ الدراسات الصينية الشعبية بجامعة باريس، فإن هذه القصة الصينية " تصوير للحكمة الصينية الشعبية التي تنادي بأن قليلاً من الفكاهة في الحياة يمكن أن يكون أكثر فائدة من الخبرة أو من التعليم ".والتفسير الثاني لأهمية الضحك للعالم السوفيتي يوري بورييف الذي يقول: " في عصرنا الحاضر – عصر الطاقة الذرية – يعتبر الضحك السلاح الوحيد النافع المفيد، وذلك لأنه سلاح للبناء والتعمير، لا التدمير والتخريب ". والقارئ العربي الذي يتابع أي صحيفة عربية اليوم يجدها مكتظة بأخبار الحروب والنزاعات والزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية كالسيول والبراكين، والكوارث المفاجئة كحوادث تصادم القطارات وسقوط الطائرات وجنوح السفن والاغتيالات والإرهاب.. إلخ. ولا يوجد في أية صحيفة عربية من المحيط إلى الخليج صفحة للفكاهة تخفف من عناء بقية صفحاتها التي تزرع الكآبة في الصفحة الأولى وترويها ببقية الصفحات فإذا وصل القارئ إلى الصفحة الأخيرة ارتفع عنده ضغط الدم واختلت نسبة السكر، وبدأت علامات السعال ومقدمات الإمساك بصفحة الوفيات ورسوم الكاريكاتير التي تمثل – غالباً – النافذة الوحيدة التي تطل على عالم المرح. وماذا يبتغي المواطن من صحافته غير أن تُضحكه على نفسه حين يرى من اختارهم لتمثيله ليصلحوا الشأن العام قد تفرغوا لإصلاح أنوفهم؟؟