17 سبتمبر 2025

تسجيل

دروس من مونديال قطر (7) القوة الناعمة

24 يناير 2023

تعد قطر من الدول التي أحسنت توظيف "القوة الناعمة"، وهي قوة أضحى تأثيرها العالمي أشد تأثيرا من القوة العسكرية أو الاقتصادية. ولقد كانت استضافتها لمونديال كأس العالم لكرة القدم وسيلة كبيرة من وسائل تعظيم وتعزيز قوتها الناعمة التي من شأنها تقوية التأثير السياسي الخارجي لدولة قطر، وجذب الاستثمارات، وتعضيد الاقتصاد على المدى البعيد. ومفهوم "القوة الناعمة" صاغه الأمريكي (جوزيف ناي) أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لمدرسة جون كينيدي الحكومية في جامعة هارفارد، ويعني القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، يقول (جوزيف ناي) في كتابه (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية): "القدرة على ترسيخ التفضيلات تميل إلى الارتباط مع الموجودات غير الملموسة مثل الشخصية الجذابة، والثقافة والمؤسسات والقيم السياسية، والسياسات التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية وأخلاقية". ولقد سعت الدول الكبرى إلى الاعتماد على القوة الناعمة، وأجلى مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية في اعتمادها على "هوليوود" في تسويق الشخصية الأمريكية (المنتصرة دائما)، و(صاحبة الحق في قضايا الصراع)، و(المتحضرة إنسانيا)، وغير ذلك من المفاهيم، ولم يعد الأمر سرا فقد تحدث (روبرت غيتس) أحد وزراء الدفاع الأمريكيين السابقين عن الحاجة إلى تعزيز القوة الناعمة الأمريكية عن طريق «زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية من الأمن القومي بالدبلوماسية، والاتصالات الاستراتيجية، وتقديم المساعدة الأجنبية، وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية»، كما أن الصين هي الأخرى سعت إلى تعزيز قوتها الناعمة بالتزامن مع مشروعها العظيم"طريق واحد حزام واحد" إذ قال في عام 2007: أن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة. وقطر تمتلك القوة الناعمة قبل استضافتها كأس العالم، وقد اعتمدت عليها في سياستها الخارجية إذ أسهمت في حل العديد من القضايا الدولية منها على سبيل المثال القضية الأفغانية، واللبنانية، والتشادية والفلسطينية، والسودانية، يقول د. ياسر محجوب الحسين: "إن القوة الناعمة التي أجادت قطر استخدامها وتطويعها لا سيما في مجال السياسة الخارجية، قد عززت مكانة الدولة وزيادة قدرتها على تحقيق مصالحها الوطنية، بل ساهمت قوتها الناعمة في زيادة جاذبيتها وجعلها قائدة في منطقتها ونموذجا تسعى الكثير من الدول للتحالف معها وتبني نموذجها". لقد أتاح مونديال كأس العالم 2022 لقطر أن تعزز سياسة "القوة الناعمة" التي تقوم على القيم العربية الإسلامية الأصيلة، من أجل تغيير الصورة النمطية السائدة في الغرب عن الإنسان العربي المسلم، وتجلية حقائق مشوهة كرسها الإعلام الغربي في الذهنية الغربية عن بلداننا العربية المسلمة، وإظهار الإسلام في البيئة الإسلامية وتسويق قيمه النبيلة السامية. كان جليا للعيان كيف استطاعت قطر أن تطوع قوتها الناعمة من خلال المونديال متمثلا ذلك في إظهار القيم الراقية للإنسان القطري المضياف والكريم المتعايش مع الشعوب الأخرى محافظا على هويته، متمسكا بقيمه، مؤثرا على الآخر، محصنا من أية تشويهات مقصودة ومتعمدة للقيم التي تربى عليها، كما تمثلت القوة الناعمة في المشاهد الإنسانية اللطيفة التي تعتني بالإنسان أيا كان اعتناء كبيرا بحكم أنه ضيف على الوطن ويجب مراعاته والإحسان إليه، فأذكر ذلك المشجع الذي تعرض لكسر في رجله كيف تم الاعتناء به اعتناء لافتا، حتى إنه طلب أن يوجه كلمة لإعلام بلده مشيدا بالعناية الصحية التي تلقاها، والاهتمام الذي حظي به وهذه صورة وإن بدت صغيرة إلا أنها قوية التأثير في إطار "القوة الناعمة". وفي إطار التنظيم الدقيق التفاصيل للمونديال فإن القوة الناعمة قد اعتنت بأدق التفاصيل وقد لفتتني تلك الهدايا التي وزعت في كراسي المشجعين الذي حضروا المباراة الافتتاحية داخل حقيبة شملت عددا من الهدايا من أهمها قميص بتوقيع الأمير الوالد - وهي لفتة عميقة لها دلالتها الراقية - وعطور المسك والعود التي هي من الروائح المحببة للإنسان الخليجي، وغيرها من الهدايا التي تنصب في تعزيز "القوة الناعمة"، ولا ننسى الشاب الكيني الذي سمي "رجل المترو" كيف أن قطر قد منحته التكريم والاهتمام جزاء على إحسانه في عمله البسيط والمقتضب في إرشاد المشجعين إلى اتجاه المترو، وهي لفتة ذات مغازٍ إنسانية لطيفة، فضلا عن استضافة العديد من القطريين لمشجعين من مختلف البلدان والثقافات، وإلباس مشجعات أرجنتينيات العباءة ودعوتهن للزيارة من قبل نساء قطريات، ونذكر أيضا تجربة ارتداء الحجاب لكثير من النساء الأجنبيات، وارتداء الشماغ والثوب العربي من قبل الكثير من المشجعين، وإلقاء المحاضرات من قبل العديد من الدعاة على رأسهم الداعية الكبير زاكر نايك الذي أكرمته قطر بالدعوة بعد غيابه لفترة طويلة عن المشهد العام، ولا تغيب عنا مشاهد السجود في الملعب، وقبلات اللاعبين المغاربة لأمهاتهم واحتفالهم معهن فكل ذلك يحسب لصالح تسويق "القوة الناعمة" لمونديال قطر. صور لا تحصى أسهمت في تعزيز "القوة الناعمة" ليس لدولة قطر وحسب بل وللإسلام وأمة العرب، وقدمت بها قطر درسا عظيما في أن "القوة الناعمة" هي أقوى نفوذا من السلاح العسكري المدمر، فهي قوة هادئة تسوق القيم والسياسات بطريقة مؤثرة وفاعلة، ولقد أحسنت قطر في تقديم أروع الأمثلة في القوة الناعمة يفترض أن يجد مكانه في مقررات التعليم لتعرف آثاره ومآثره.